خ1 - الإسراء والمعراج ، خ2 - حقيقة المعجزة في الإسلام .
صفحة 1 من اصل 1
خ1 - الإسراء والمعراج ، خ2 - حقيقة المعجزة في الإسلام .
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى لسانه فقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى شرعه فقال:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى جليسه فقال:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى فؤاده فقال:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى بصره فقال:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
( سورة النجم )
وزكاه كله فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم )
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، رهبان الليل، وفرسان النهار، بلغوا من العلم والعمل شأواً بعيداً، حتى إن أحدهم قال: << والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً >>، وقال آخر: << والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد من عملي >>.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
مقدِّمة: نظام السببية:
1 ـ نظام السببية تلازمُ شيئين وجوداً وعدماً:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إن الله جل جلاله خلق الكون بسماواته وأرضه، وخلق العوالم، وعلى رأسها الإنسان وفق أنظمة بالغة الدقة، ومن أبرز هذه الأنظمة نظام السببية، وهو تلازم شيئين وجوداً وانعداماً، أحدهما قبل الآخر، فنسمي الأول سبباً، ونسمي الثاني نتيجة، ومما يكمل هذا النظام الرائع أن العقل البشري يقوم على مبدأ السببية، أي أن العقل لا يفهم حدثا من دون محدث.
ومن رحمة الله بنا أن هذا النظام في الكون، وذاك المبدأ في العقل يقودنا برفق إلى معرفة الله مسبب الأسباب، الأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟
2 ـ ثبات الأشياء حاصلٌ بتلازم الأسباب مع النتائج:
ومن رحمة الله بنا أيضا أن تلازم الأسباب مع النتائج يضفي على الكون طابع الثبات، ويمهد الطريق لاكتشاف القوانين، ويعطي الأشياء خصائصها الثابتة ليسهل التعامل معها، ولو لم تكن الأسباب متلازمة مع النتائج، ولو لم تكن النتائج بقدر الأسباب لأخذ الكون طابع الفوضى العبثية، ولتاه الإنسان في سبل المعرفة، ولم ينتفع بعقله.
3 ـ حقيقة اتخاذ الأسباب:
لكن، أقول: لكن، استدراكا، لكن من اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج، ثم اعتمد على الأسباب وحدها فقد أشرك، لذلك يتفضل الله على هذا الإنسان الذي وقع بالشرك الخفي فيؤدبه بتعطيل فاعلية الأسباب التي اعتمد عليها، فيفاجئ بنتائج غير متوقعة، ومن ترك الأخذ بالأسباب متوكلاً في زعمه على الله فقد عصى، لأنه لم يعبأ بهذا النظام الذي ينتظم الكون، ولأنه طمع بغير حق أن يخرق الله له هذه السنن.
أما المؤمن الصادق فيأخذ بالأسباب من دون أن يعتقد أنها تصنع النتائج، وبالتالي من دون أن يعتمد عليها، يأخذ بها، وكأنها كل شيء، ويعتمد على الله صانع كل شيء معتقداً أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الأسباب وحدها لا تقود إلى النتائج إلا بمشيئة الله، وهذا التوحيد الإيجابي الذي يغيب عن كثير من المؤمنين فضلاً عن غير المؤمنين، قال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
( سورة يوسف )
قال بعض المفسرين هذا هو الشرك الخفي.
4 ـ خرقُ نظام السببية:
ولكنْ يا أيها الإخوة المؤمنون، لكنَّ هذا النظام نظام السببية يخرق أحيانا متى وكيف ؟ حينما يأتي إنسان، ويقول: إنه رسول من عند الله، جاء ليبلغ منهج الله، فلابد أن يطالبه الناس ببرهان، على أنه رسول الله، وعلى أن الكتاب الذي جاء به هو من عند الله، وهنا تأتي المعجزة لتكون برهاناً على صدق إرسال النبي، ومصداقية منهجه.
والمعجزة أيها الإخوة في بعض تعاريفها خرق لنواميس الكون ولقوانينه، ولا يستطيعها إلا خالق الكون، لأنه هو الذي وضع القوانين والنواميس، يعطيها لرسله لتكون برهاناً على صدقهم في إرسالهم، وصدقهم في إبلاغهم عن ربهم، والمعجزة ممكنة عقلاً غير مألوفة عادة، فهناك فرق بين أن يحكم العقل على شيء باستحالته، وبين أن يعلن عجزه عن فهم هذا الشيء، فعدم العلم بشيء ليس علماً بعدم ذلك الشيء.
5 ـ عدمُ حرقِ النار لإبراهيم خرقٌ لقانون السببية:
أيها الإخوة المؤمنون حضورا ومستمعين، تأكيداً لهذه الحقيقة، فقد جاء قوم سيدنا إبراهيم عبدة الأوثان، جاؤوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم أصنامهم، وأوقدوا له ناراً هائلةً ليحرقوه، ليحرقوه أمام آلهتهم ليكون انتقامهم من سيدنا إبراهيم انتقاماً تباركه آلهتهم، جاؤوا بالحطب، فأوقدوا النار العظيمة، كل شيء مُعدٌ لتمجيد آلهة غير الله، سبحانه وتعالى، والسؤال هنا: لماذا سمح الله لهم أن يأتوا بإبراهيم ليحرقوه بالنار أمام آلهتهم، وهو رسول الله ؟
كان من الممكن أن يختفي إبراهيم عليه السلام ولا يظهر، وعندئذ ينجو إبراهيم من الحرق، ولكنْ لو حدث هذا لقالوا: لو قبضنا على إبراهيم لأحرقناه، وعندئذ ستظل قوة الآلهة المزيفة مسيطرة على عقولهم، وأنها تنفع من يعبدها، وتضر من يؤذيها، لذلك لابد أن يقع سيدنا إبراهيم في أيديهم ليشهد القوم عجز آلهتهم المزعومـة أمام قدرة الله، وكان من الممكن أن يطفأ الله النار بسبب أرضي، كأن ينزل الأمطار فتنطفئ النار، ولو حدث هذا لقالوا: إن آلهتنا قادرة على أن تحرق إبراهيم، ولكن السمـاء أمطرت، ولو أن السماء لم تمطر لانتقمت آلهتنا منه بالحرق، ما الذي حدث ؟ الذي حدث لحكمة بالغة أن إبراهيم عليه السلام لم يختف، بل وقع في أيديهم، وأن النار لم تنطفئ، بل ازدادت اشتعالاً، ثم ألقوا بإبراهيم في النار، فإذا الله سبحانه وتعالى يعطل فاعلية الأسباب، ويبطل إحراق النار، وتكون النار بردا وسلاماً على إبراهيم، قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
( سورة الأنبياء )
ولنسأل إخوتنا المستمعين والحاضرين، ماذا سيكون لو أن الله تعالى قال:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
( سورة الأنبياء )
وماذا سيكون لو أن الله تعالى قال: يا نار كوني بردا وسلاماً، ولم يقل على إبراهيم، ابحثوا أيها الإخوة عن الجواب ؟ أو اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
الإسراء والمعراج:
1 ـ القرآن يصرّح بالإسراء والمعراج:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إلى موضوع الخطبة، إنه الإسراء والمعراج، قال تعالى مشيراً إلى الإسلام بدلالة قطعية:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
( سورة الإسراء )
وقال تعالى مشيراً إلى المعراج بدلالة ظنية رحمة بنا:
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾
( سورة النجم )
2 ـ حكمة الإسراء والمعراج:
أما حكمة الإسراء فقد أجملها الله تعالى في قوله:
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾
وأما حكمة المعراج، لقد أجملها الله تعالى في قوله:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
وقفة تأمُّل مع الآية الأةلى من سورة الإسراء:
إنّ كلمة:
﴿ سُبْحَانَ ﴾
في الآية تفيد أن الإسراء والمعراج لا يخضعان لقوانين الأرض، ولا لقوانين الزمان والمكان، وهو من الموضوعات الإخبارية التي لا يستطيع العقل أن يخضعها لمبادئه ومقاييسه.
وحينما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ لِنُرِيَهُ ﴾
، ولم يقل: لنريهم، أراد أن تكون هذه المعجزة تكريماً لنبيه علية الصلاة والسلام بأن يريه ما شاء من آيات قدرته، وعجائب صنعته، وعظيم ملكه، ومصائر خلقه، ليطمئن قلبه، وتستنير بصيرته، ويزداد يقينه، وليكون عالم الغيب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مشهوداً، وليكون اليقين به يقيناً حسياً لا إخباريا، فهناك فرق بين علم اليقين، وهو اليقين الإخباري، وحق اليقين، وهو اليقين الشهودي، وعين اليقين، وهو يقين المعاينة.
وأما كلمة:
﴿ بِعَبْدِهِ ﴾
فتفيد أن الإنسان مهما خرقت له العادات، ومهما نال من الله أعظم المكرمات لا يمكن إلا أن يكون عبداً لخالق الأرض والسماوات.
وأما كلمة:
﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
فلها قصة تأتي بعد حين.
3 ـ الإسراء والمعراج مسحٌ لجراح النبي وتطمين لمستقبل دعوته:
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان، لقد كان الإسراء والمعراج بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مسحاً لجراح الماضي، وتثبيتاً لقلبه، وتطميناً له على مستقبل الدعوة، وتعويضاً عن جفوة الأرض بحفاوة السماء، وعن قسوة عالم الناس بتكريم الملأ الأعلى.
لقد كان الإسراء والمعراج تكريماً فريداً من نوعه للنبي صلى الله عليه وسلم، لقد عرف الله نبيه بعد محنة الطائف أنه سيد ولد آدم، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين، ولقد أراه ملكوت الأرض والسماوات، وما تؤول إليه الخلائق بعد الممات، لقد كان الإسراء والمعراج عقب عام الحزن، ففي هذا العام توفيت السيدة خديجة صديقة النساء التي حنت عليه ساعة العسرة، وواسته في أيام الشدة بنفسها ومالها، في هذا العام أيضاً توفي عمه أبو طالب الذي أظهر من النبل في كفالته، ومن البطولة في الدفاع عنه الشيء الكثير.
وقد نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تنل منه في أي وقت مضى، وفي هذا العام بالذات خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس هداية أهلها، ونصرتهم، فردوا دعوته رداً منكراً، وأغلظوا له بالقول، وأغروا به سفهاءهم، لقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العام من الشدائد ما لا يحتمله بشر على الإطلاق، إلا أن يكون نبياً.
4 ـ امتحان النبي قبل الإسراء والمعراج تعليم للمسلمين خُلقَ الصبر:
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان، إذا كان الإسراء والمعراج تكريماً عظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نجاحٍ باهر في امتحان صعب، فما هذا الامتحان الصعب الذي اجتازه النبي حتى استحق هذا التكريم الفريد ؟ إنه امتحان الطائف.
أيها الإخوة المؤمنون، إن ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من مختلف ألوان المحنة، ولاسيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون، وخالقه، وحقيقته، وعن الحياة، وعن الإنسان، ورسالته، وعن أحكام العبادات والمعاملات، وعن مكارم الأخلاق، كذلك جاء ليبلغ المسلمين عن طريق السلوك العملي، أن ما كلفهم الله به من واجب الصبر والمصابرة يجب أن يكونوا في مستواه، فقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
( سورة آل عمران )
فكما أن الني صلى الله عليه وسلم علّم الناس بأقواله كذلك علمهم بأفعاله، وكما أنه قال للناس:
(( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ))
[ البخاري عن مالك بن الحوريث ]
و:
(( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ))
[ مسلم ]
كذلك قال لهم بلسان حاله: اصبروا كما رأيتموني أصبر، وربما توهم متوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غُلب على أمره في الطائف، وأن الضجر نال منه، لذلك توجه لله بالدعاء والشكوى.
والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُغلبْ على أمره، ولم يضجر، وإنما استقبل هذه المحن راضياً، وتجرع تلك الشدائد صابراً محتسباً، لأنه كان بوسعه أن ينتقم من الذين آذوه ومن الزعماء الذين أغروا به أولئك السفهاء، والدليل ما رواه الإمام البخاري و مسلم من أن جبريل عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وسلم في قرن الثعالب ( مكان )، فعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
[ أخرجه البخاري ]
انظروا أيها الإخوة الكرام، لم يتخل النبي عن قومه قال:
(( قومي ))
، ودعا لهم فقال:
(( اللهم اهد قومي ))
، واعتذر عنهم، فقال:
(( فإنهم لا يعلمون ))
[ البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلاً ]
ورجا أن تكون ذريتهم عابدة لله موحدة، هذه مادة من مواد الامتحان الصعب الذي وُفِق بها النبي عليه الصلاة والسلام، وصدق الله العظيم حينما وصف نبيه الكريم بأنه على خلق عظيم.
5 ـ لا تناقض بين الصبر والشكوى إلى الله:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، ليس بين الصبر على الشدائد والتضرع إلى الله تعالى بالشكوى أو الدعاء أيُّ تعارض أو تناقض، فالشكوى إلي الله تعبد، قال تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة يوسف )
والضراعة له والتذلل على بابه عز وجل تلبِس العبد جلباب العبودية، ولقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلا الأمرين، كان بصبره الشديد على المصائب والمحن يعلمنا أن على المسلمين عامة والدعاة خاصة أن يصبروا، وأن يصابروا، وكان بطول دعائه وضراعته والتجائه إلى الله يعلمنا أن هذا من لوازم العبودية لله عز وجل، وهل من دعاء أكثر دلالة على عبودية النبي صلى الله عليه سلم من هذا الدعاء الذي دعاه في الطائف:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ))
[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر ]
6 ـ النبي يتألم كما يتألّم البشر:
أيها الإخوة الأكارم، النفس الإنسانية مجبولة في أصل فطرتها على الإحساس والشعور، الشعور بلذة النعيم، والشعور بألم العذاب، وهي مجبولة على الركون إلى الأول والفزع من الثاني، وحينما يوطن الإنسان نفسه على تحمل كل أنواع الضر والعذاب، وهو يؤدي رسالة ربه مبتغياً بهذا وجهه ورضوانه، لا يعني هذا أنه لا يتألم للضر، ولا يستريح للنعيم، فالنفس مهما تسامت لا تخرج عن دائرة بشريتها، ولكن حينما يفضل الإنسان الضر مهما تكن آلامه على النعيم مهما تكن لذائذه إرضاء لوجه ربه، وأداء للرسالة التي أنيطت به عندئذ يستحق جنة ربه إلى أبد الآبدين، حيث يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر.
7 ـ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
أيها الإخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، حين يتأمل الإنسان في سيرة النبي مع قومه يجد أنه لاقى من قومه من الأذى ما لا يحتمله بشر على الإطلاق، بيد أن الإنسان يجد أيضاً مع كل نوع من أنواع الأذى، ومع كل مرحلة من مراحله رداً إلهياً على هذا الإيذاء مواساةً، وتطميناً، وإكراماً، وتأييداً، حتى لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما قد يدخل إليها اليأس، وما الإسراء والمعراج في حقيقته إلا ردٌّ إلهي تكريمي على المحنة القاسية التي كشفت حقيقة الحرص النبوي على هداية قومه، وكشفت صبره الجميل على إيذائهم، وموقفه النبيل والرحيم منهم حينما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الجبلين، وهو الرد الإلهي على دعائه في الطائف، ولعل معنى قوله تعالى في آخر آية الإسراء:
﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
( سورة الإسراء )
أي سمع الله دعاءك يا محمد في الطائف، وعلم منك حرصك على هداية قومك الذين بالغوا في الإساءة إليك.
أيها الإخوة الكرام، هذه الحقيقة يمكن أن تنسحب على المؤمن بشكل أو بآخر، فقوله تعالى:
﴿ فَإِنَّ مـَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾
( سورة الشرح )
هذا قانون، فشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد ضيق الأمر هي سنة الله في خلقه.
ربنا سبحانه وتعالى نكر كلمة يسراً تنكير تعظيم، المراد به اليسر العظيم، أو يسر الدارين، وكلمة مع تفيد الإشعار بمجيء اليسر كأنه مقارن للعسر، والتكرير يفيد التأكيد، أو يفيد أن يسر الآخرة يأتي بعد يسر الدنيا، وفي اللغة العربية أن المعرف إذا كُرِّر يكون الثاني عين الأول، وأن المنكر إذا كُرر يكون الثاني مغايراً للأول، فصار في الآية يسران وعسر واحد، لذلك بناء على هذه القاعدة أثر عن النبي أنه قال:
(( لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ))
[ أخرجه مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب ]
كن عن همومك معرضـا وكِلِ الأمور إلى القـضا
و أبشر بخير عاجـــل تنسَ به ما قد مضــى
فلرب أمر مسخــــط لك في عواقبـه رضـى
ولربما ضاق المضيــق ولربما اتسع الفضـــا
الله يفعل ما يشــــاء فلا تكن معتـرضـــاً
الله عودك الجميــــل فقس على ما قد مضــى
***
درس من أحداث الطائف قبل الإسراء والمعراج:
أيها الإخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، درسٌ آخر نتعلمه من رسول الله صلى الله عليـه وسلم، وهو في الطائف، فعندما سأله زيد بن حارثة متعجباً، يا رسول الله كيف تعود إلى مكة وقد أخرجوك، فأجابه النبي، يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه.
كلّ هذا الذي رآه النبي في الطائف من أهوال التكذيب، ومن أهوال السخرية والإيذاء، كل هذا الذي كان قد رآه في مكة من كفر وجحود، وتنكيل وإخراج، كل هذا على كثرته، وعلى شدته، وعلى قسوته لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى، وعلى قوة عزيمته الإيجابية في نفسه، فما كان الله ليتخلى عن دينه، وعن نبيه، وعن المؤمنين مهما بدت هجمة أعداء الدين قوية وشاملة، فالباطل عقيدة أو قوة إلى انهيار محقق، قال تعالى:
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾
( سورة الإسراء )
ومن ظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر رسله، ولا يتم أمره، ولا يؤيد جنده، ولا يعليهم، ولا يظهرهم على أعدائهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، من ظن ذلك فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى ما لا يليق بكماله وجلاله، وأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، فإن عزته وحكمته تأبى ذلك، ويأبى أن يذل أولياءه، وأن يكون النصر المستقر والظفر الدائم لأعدائه، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته.
سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً والحمد الله رب العالمين.
***
الخطبة الثانية:
المعجزة:
1 ـ إذا كان أصل الاعتقاد ضعيفا فلا عبرة بالحديث عن المعجزة:
أيها الإخوة الكرام، كلمة قصيرة عن حقيقة المعجزة، بادئ ذي بدئ لا معنى للحديث عن المعجزات التي هي خرق للنواميس والعادات، وعن جزئياتها، وعن وقوعها أو توهمها، إذا كان أصل الدين الذي يتلخص في الإيمان بالله، موجوداً، وواحداً، وكاملاً، والإيمان أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وفعال لما يريد، إذا كان هذا الأصل محل إنكار أو شك فلا معنى للحديث عن المعجزات أصلاً، فالناس يخاطبون عادة بأصول الدين، والمؤمنون يخاطبون بفروع الدين، والحديث عن المعجزات من فروع الدين، فإذا كان الأصل مهتزاً فلا جدوى من الحديث عن المعجزات.
2 ـ الكون كلّه معجزة:
ثم إن الكون بمجراته وكازاراته، بكواكبه ومذنباته بالمسافات البينية والسرعات الضوئية بحجوم النجوم وسرعاتها، بدورانها، وتجاذبها، والأرض بجبالها، ووديانها، وسهولها، وقفارها، ببحارها، وبحيراتها، بينابيعها، وأنهارها، بحيواناتها، ونباتاتها، بأسماكها، وأطيارها، بمعادنها، وثرواتها، والإنسان بعقله، وعاطفته، وأعضائه، وأجهزته، بفطرته، وطباعه، بزواجه، وذريته هذه كلها معجزات، وأية معجزات، الكون بسماواته، وأرضه هو في وضعه الراهن من دون خرق لنواميسه، ومن دون خروج عن نظامه، هو في حد ذاته معجزة وأية معجزة، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
( سورة آل عمران )
3 ـ جسم الإنسان كلّه معجزة:
أيها الأخ الكريم، جسمك الذي هو أقرب شيء إليك إنه معجزة:
ففي رأس الإنسان ثلاثمائة ألف شعره لكل شعرة، بصلة ووريد وشريان وعضلة وعصب وغدة دهنية وغدة صبغية، أليست هذه معجزة، في شبكية العين عشر طبقات، في أخراها مائة وأربعون مليون مستقبل للضوء ما بين مخروط وعصية، ويخرج من العين إلى الدماغ عصب بصري يحوي خمس مائة ألف ليف عصبي، ولو درجنا اللون الأخصر مثلاًً ثمان مائة ألف درجة لاستطاعت العين السليمة أن تميز بين درجتين أليست هذه معجزة ؟
وفي الأذن ما يشبه شبكية العين، وفيها ثلاثون ألف خلية سمعية لنقل أدق الأصوات، وفي الدماغ جهاز يقيس التفاضل الزمني لوصول الصوت إلى كل من الأذنين، وهذا التفاضل يقل عن جزء من ألف وستمائة جزء من الثانية وهو يكشف للإنسان جهة الصوت، أليست هذه معجزة ؟
وعلى سطح اللسان تسعة آلاف نتوء ذوقي لمعرفة الطعم الحلو والحامض، والمر والمالح، وإن كل حرف ينطقه اللسان يسهم في تكوينه سبع عشرة عضلة، فكم حركة تحرَّكتها عضلات اللسان في خطبة تستغرق ساعة من الزمن، أليست هذه معجزة.
وفي الإنسان مضخة تعمل دون كلل أو ملل، تضخ ثمانية أمتار مكعبة من الدم في اليوم الواحد، وتضخ في العمر المتوسط ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم، إنه القلب أليس القلب معجزة ؟
وفي دماغ الإنسان أربعة عشر مليار خلية قشرية، ومائة مليار خلية استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، بل إن دماغ الإنسان أعقد ما في الإنسان، وهو عاجز عن فهم ذاته أليس الدماغ معجزة ؟
وفي جدار المعدة مليار خلية تفرز من حمض كلور الماء ما يزيد على عدة أمتار في اليوم الواحد، وقد جهد العلماء في حل هذا اللغز، لَمَ لا تهضم المعدة نفسها ؟ أليست المعدة معجزة ؟
وفي الأمعاء ثلاثة آلاف وستمائة زغابة معوية للامتصاص في كل سم مربع وهذه الزغابات تتجدد كلياً في كل ثمان وأربعين ساعة، أليست الأمعاء الدقيقة معجزة وتحت سطح الجلد يوجد حوالي ستة عشرة مليون مكيف لحرارة البدن هي الغدد العرقية، أليست هذه الغدد معجزة، وفي الكبد ثلاث مائة مليار خلية يمكن أن تجدد كلياً خلال أربعة أشهر ووظائف الكبد كثيرة وخطيرة ومدهشة في الإنسان، حيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا كبد أكثر من ثلاث ساعات، أليس الكبد معجزة ؟
وفي الكُليتين مليونا وحدة تصفية طولها مجتمعة مائة كيلومتر يمر فيها الدم في اليوم مرات كثيرة أليست الكلية معجزة ؟
خاتمة:
أيها الإخوة الكرام، غير أن الإنسان لانهماكه بمشاغله، وغفلته عن خالقه، ولطول إلفته لما حوله ينسى وجه الإعجاز فيما حوله، وعظمة الخالق فيما خلق، فيحسب جهلا منه، وغرورا أن المعجزة هي تلكم التي تفاجئ ما ألفه واعتاده، ثم يمضي هذا الإنسان الجاهل يتخذ مما ألفه، واعتاده مقياساً لإيمانه بالأشياء، أو كفره بها، وهذا جهل عجيب في الإنسان، مهما ارتقى في مدارج المدنية والعلم، تأمل يسير من الإنسان يوضح له بجلاء أن الخالق جل وعلا الذي خلق معجزة هذا الكون كله ليس عسيراً عليه أن يزيد فيه معجزة أخرى، أو أن يبدل، أو أن يغير في بعض أنظمته التي أنشأ العالم عليها.
يقول بعض العلماء الغربيين: القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه، أو إضافة شيء إليه، ولو لم يكن هذا العالم موجودا، وقيل لواحد ممن ينكر المعجزات والخوارق: سيوجد عالم كذا وكذا، فإنه سيجيب فوراً: هذا غير معقول، ولا متصور، ويأتي إنكاره هذا أشد بكثير من إنكار بعض المعجزات.
والحمد لله رب العالمين
( سورة النجم )
وزكى لسانه فقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى شرعه فقال:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى جليسه فقال:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى فؤاده فقال:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
( سورة النجم )
وزكى بصره فقال:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
( سورة النجم )
وزكاه كله فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم )
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، رهبان الليل، وفرسان النهار، بلغوا من العلم والعمل شأواً بعيداً، حتى إن أحدهم قال: << والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً >>، وقال آخر: << والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد من عملي >>.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
مقدِّمة: نظام السببية:
1 ـ نظام السببية تلازمُ شيئين وجوداً وعدماً:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إن الله جل جلاله خلق الكون بسماواته وأرضه، وخلق العوالم، وعلى رأسها الإنسان وفق أنظمة بالغة الدقة، ومن أبرز هذه الأنظمة نظام السببية، وهو تلازم شيئين وجوداً وانعداماً، أحدهما قبل الآخر، فنسمي الأول سبباً، ونسمي الثاني نتيجة، ومما يكمل هذا النظام الرائع أن العقل البشري يقوم على مبدأ السببية، أي أن العقل لا يفهم حدثا من دون محدث.
ومن رحمة الله بنا أن هذا النظام في الكون، وذاك المبدأ في العقل يقودنا برفق إلى معرفة الله مسبب الأسباب، الأقدام تدل على المسير، والماء يدل على الغدير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟
2 ـ ثبات الأشياء حاصلٌ بتلازم الأسباب مع النتائج:
ومن رحمة الله بنا أيضا أن تلازم الأسباب مع النتائج يضفي على الكون طابع الثبات، ويمهد الطريق لاكتشاف القوانين، ويعطي الأشياء خصائصها الثابتة ليسهل التعامل معها، ولو لم تكن الأسباب متلازمة مع النتائج، ولو لم تكن النتائج بقدر الأسباب لأخذ الكون طابع الفوضى العبثية، ولتاه الإنسان في سبل المعرفة، ولم ينتفع بعقله.
3 ـ حقيقة اتخاذ الأسباب:
لكن، أقول: لكن، استدراكا، لكن من اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج، ثم اعتمد على الأسباب وحدها فقد أشرك، لذلك يتفضل الله على هذا الإنسان الذي وقع بالشرك الخفي فيؤدبه بتعطيل فاعلية الأسباب التي اعتمد عليها، فيفاجئ بنتائج غير متوقعة، ومن ترك الأخذ بالأسباب متوكلاً في زعمه على الله فقد عصى، لأنه لم يعبأ بهذا النظام الذي ينتظم الكون، ولأنه طمع بغير حق أن يخرق الله له هذه السنن.
أما المؤمن الصادق فيأخذ بالأسباب من دون أن يعتقد أنها تصنع النتائج، وبالتالي من دون أن يعتمد عليها، يأخذ بها، وكأنها كل شيء، ويعتمد على الله صانع كل شيء معتقداً أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الأسباب وحدها لا تقود إلى النتائج إلا بمشيئة الله، وهذا التوحيد الإيجابي الذي يغيب عن كثير من المؤمنين فضلاً عن غير المؤمنين، قال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
( سورة يوسف )
قال بعض المفسرين هذا هو الشرك الخفي.
4 ـ خرقُ نظام السببية:
ولكنْ يا أيها الإخوة المؤمنون، لكنَّ هذا النظام نظام السببية يخرق أحيانا متى وكيف ؟ حينما يأتي إنسان، ويقول: إنه رسول من عند الله، جاء ليبلغ منهج الله، فلابد أن يطالبه الناس ببرهان، على أنه رسول الله، وعلى أن الكتاب الذي جاء به هو من عند الله، وهنا تأتي المعجزة لتكون برهاناً على صدق إرسال النبي، ومصداقية منهجه.
والمعجزة أيها الإخوة في بعض تعاريفها خرق لنواميس الكون ولقوانينه، ولا يستطيعها إلا خالق الكون، لأنه هو الذي وضع القوانين والنواميس، يعطيها لرسله لتكون برهاناً على صدقهم في إرسالهم، وصدقهم في إبلاغهم عن ربهم، والمعجزة ممكنة عقلاً غير مألوفة عادة، فهناك فرق بين أن يحكم العقل على شيء باستحالته، وبين أن يعلن عجزه عن فهم هذا الشيء، فعدم العلم بشيء ليس علماً بعدم ذلك الشيء.
5 ـ عدمُ حرقِ النار لإبراهيم خرقٌ لقانون السببية:
أيها الإخوة المؤمنون حضورا ومستمعين، تأكيداً لهذه الحقيقة، فقد جاء قوم سيدنا إبراهيم عبدة الأوثان، جاؤوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم أصنامهم، وأوقدوا له ناراً هائلةً ليحرقوه، ليحرقوه أمام آلهتهم ليكون انتقامهم من سيدنا إبراهيم انتقاماً تباركه آلهتهم، جاؤوا بالحطب، فأوقدوا النار العظيمة، كل شيء مُعدٌ لتمجيد آلهة غير الله، سبحانه وتعالى، والسؤال هنا: لماذا سمح الله لهم أن يأتوا بإبراهيم ليحرقوه بالنار أمام آلهتهم، وهو رسول الله ؟
كان من الممكن أن يختفي إبراهيم عليه السلام ولا يظهر، وعندئذ ينجو إبراهيم من الحرق، ولكنْ لو حدث هذا لقالوا: لو قبضنا على إبراهيم لأحرقناه، وعندئذ ستظل قوة الآلهة المزيفة مسيطرة على عقولهم، وأنها تنفع من يعبدها، وتضر من يؤذيها، لذلك لابد أن يقع سيدنا إبراهيم في أيديهم ليشهد القوم عجز آلهتهم المزعومـة أمام قدرة الله، وكان من الممكن أن يطفأ الله النار بسبب أرضي، كأن ينزل الأمطار فتنطفئ النار، ولو حدث هذا لقالوا: إن آلهتنا قادرة على أن تحرق إبراهيم، ولكن السمـاء أمطرت، ولو أن السماء لم تمطر لانتقمت آلهتنا منه بالحرق، ما الذي حدث ؟ الذي حدث لحكمة بالغة أن إبراهيم عليه السلام لم يختف، بل وقع في أيديهم، وأن النار لم تنطفئ، بل ازدادت اشتعالاً، ثم ألقوا بإبراهيم في النار، فإذا الله سبحانه وتعالى يعطل فاعلية الأسباب، ويبطل إحراق النار، وتكون النار بردا وسلاماً على إبراهيم، قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
( سورة الأنبياء )
ولنسأل إخوتنا المستمعين والحاضرين، ماذا سيكون لو أن الله تعالى قال:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
( سورة الأنبياء )
وماذا سيكون لو أن الله تعالى قال: يا نار كوني بردا وسلاماً، ولم يقل على إبراهيم، ابحثوا أيها الإخوة عن الجواب ؟ أو اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
الإسراء والمعراج:
1 ـ القرآن يصرّح بالإسراء والمعراج:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، إلى موضوع الخطبة، إنه الإسراء والمعراج، قال تعالى مشيراً إلى الإسلام بدلالة قطعية:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
( سورة الإسراء )
وقال تعالى مشيراً إلى المعراج بدلالة ظنية رحمة بنا:
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾
( سورة النجم )
2 ـ حكمة الإسراء والمعراج:
أما حكمة الإسراء فقد أجملها الله تعالى في قوله:
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾
وأما حكمة المعراج، لقد أجملها الله تعالى في قوله:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
وقفة تأمُّل مع الآية الأةلى من سورة الإسراء:
إنّ كلمة:
﴿ سُبْحَانَ ﴾
في الآية تفيد أن الإسراء والمعراج لا يخضعان لقوانين الأرض، ولا لقوانين الزمان والمكان، وهو من الموضوعات الإخبارية التي لا يستطيع العقل أن يخضعها لمبادئه ومقاييسه.
وحينما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ لِنُرِيَهُ ﴾
، ولم يقل: لنريهم، أراد أن تكون هذه المعجزة تكريماً لنبيه علية الصلاة والسلام بأن يريه ما شاء من آيات قدرته، وعجائب صنعته، وعظيم ملكه، ومصائر خلقه، ليطمئن قلبه، وتستنير بصيرته، ويزداد يقينه، وليكون عالم الغيب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مشهوداً، وليكون اليقين به يقيناً حسياً لا إخباريا، فهناك فرق بين علم اليقين، وهو اليقين الإخباري، وحق اليقين، وهو اليقين الشهودي، وعين اليقين، وهو يقين المعاينة.
وأما كلمة:
﴿ بِعَبْدِهِ ﴾
فتفيد أن الإنسان مهما خرقت له العادات، ومهما نال من الله أعظم المكرمات لا يمكن إلا أن يكون عبداً لخالق الأرض والسماوات.
وأما كلمة:
﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
فلها قصة تأتي بعد حين.
3 ـ الإسراء والمعراج مسحٌ لجراح النبي وتطمين لمستقبل دعوته:
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان، لقد كان الإسراء والمعراج بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مسحاً لجراح الماضي، وتثبيتاً لقلبه، وتطميناً له على مستقبل الدعوة، وتعويضاً عن جفوة الأرض بحفاوة السماء، وعن قسوة عالم الناس بتكريم الملأ الأعلى.
لقد كان الإسراء والمعراج تكريماً فريداً من نوعه للنبي صلى الله عليه وسلم، لقد عرف الله نبيه بعد محنة الطائف أنه سيد ولد آدم، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين، ولقد أراه ملكوت الأرض والسماوات، وما تؤول إليه الخلائق بعد الممات، لقد كان الإسراء والمعراج عقب عام الحزن، ففي هذا العام توفيت السيدة خديجة صديقة النساء التي حنت عليه ساعة العسرة، وواسته في أيام الشدة بنفسها ومالها، في هذا العام أيضاً توفي عمه أبو طالب الذي أظهر من النبل في كفالته، ومن البطولة في الدفاع عنه الشيء الكثير.
وقد نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تنل منه في أي وقت مضى، وفي هذا العام بالذات خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس هداية أهلها، ونصرتهم، فردوا دعوته رداً منكراً، وأغلظوا له بالقول، وأغروا به سفهاءهم، لقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العام من الشدائد ما لا يحتمله بشر على الإطلاق، إلا أن يكون نبياً.
4 ـ امتحان النبي قبل الإسراء والمعراج تعليم للمسلمين خُلقَ الصبر:
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان، إذا كان الإسراء والمعراج تكريماً عظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نجاحٍ باهر في امتحان صعب، فما هذا الامتحان الصعب الذي اجتازه النبي حتى استحق هذا التكريم الفريد ؟ إنه امتحان الطائف.
أيها الإخوة المؤمنون، إن ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من مختلف ألوان المحنة، ولاسيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون، وخالقه، وحقيقته، وعن الحياة، وعن الإنسان، ورسالته، وعن أحكام العبادات والمعاملات، وعن مكارم الأخلاق، كذلك جاء ليبلغ المسلمين عن طريق السلوك العملي، أن ما كلفهم الله به من واجب الصبر والمصابرة يجب أن يكونوا في مستواه، فقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
( سورة آل عمران )
فكما أن الني صلى الله عليه وسلم علّم الناس بأقواله كذلك علمهم بأفعاله، وكما أنه قال للناس:
(( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ))
[ البخاري عن مالك بن الحوريث ]
و:
(( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ ))
[ مسلم ]
كذلك قال لهم بلسان حاله: اصبروا كما رأيتموني أصبر، وربما توهم متوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غُلب على أمره في الطائف، وأن الضجر نال منه، لذلك توجه لله بالدعاء والشكوى.
والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُغلبْ على أمره، ولم يضجر، وإنما استقبل هذه المحن راضياً، وتجرع تلك الشدائد صابراً محتسباً، لأنه كان بوسعه أن ينتقم من الذين آذوه ومن الزعماء الذين أغروا به أولئك السفهاء، والدليل ما رواه الإمام البخاري و مسلم من أن جبريل عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وسلم في قرن الثعالب ( مكان )، فعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
[ أخرجه البخاري ]
انظروا أيها الإخوة الكرام، لم يتخل النبي عن قومه قال:
(( قومي ))
، ودعا لهم فقال:
(( اللهم اهد قومي ))
، واعتذر عنهم، فقال:
(( فإنهم لا يعلمون ))
[ البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلاً ]
ورجا أن تكون ذريتهم عابدة لله موحدة، هذه مادة من مواد الامتحان الصعب الذي وُفِق بها النبي عليه الصلاة والسلام، وصدق الله العظيم حينما وصف نبيه الكريم بأنه على خلق عظيم.
5 ـ لا تناقض بين الصبر والشكوى إلى الله:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، ليس بين الصبر على الشدائد والتضرع إلى الله تعالى بالشكوى أو الدعاء أيُّ تعارض أو تناقض، فالشكوى إلي الله تعبد، قال تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة يوسف )
والضراعة له والتذلل على بابه عز وجل تلبِس العبد جلباب العبودية، ولقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلا الأمرين، كان بصبره الشديد على المصائب والمحن يعلمنا أن على المسلمين عامة والدعاة خاصة أن يصبروا، وأن يصابروا، وكان بطول دعائه وضراعته والتجائه إلى الله يعلمنا أن هذا من لوازم العبودية لله عز وجل، وهل من دعاء أكثر دلالة على عبودية النبي صلى الله عليه سلم من هذا الدعاء الذي دعاه في الطائف:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ))
[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر ]
6 ـ النبي يتألم كما يتألّم البشر:
أيها الإخوة الأكارم، النفس الإنسانية مجبولة في أصل فطرتها على الإحساس والشعور، الشعور بلذة النعيم، والشعور بألم العذاب، وهي مجبولة على الركون إلى الأول والفزع من الثاني، وحينما يوطن الإنسان نفسه على تحمل كل أنواع الضر والعذاب، وهو يؤدي رسالة ربه مبتغياً بهذا وجهه ورضوانه، لا يعني هذا أنه لا يتألم للضر، ولا يستريح للنعيم، فالنفس مهما تسامت لا تخرج عن دائرة بشريتها، ولكن حينما يفضل الإنسان الضر مهما تكن آلامه على النعيم مهما تكن لذائذه إرضاء لوجه ربه، وأداء للرسالة التي أنيطت به عندئذ يستحق جنة ربه إلى أبد الآبدين، حيث يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولولا أن النبي بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر.
7 ـ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
أيها الإخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، حين يتأمل الإنسان في سيرة النبي مع قومه يجد أنه لاقى من قومه من الأذى ما لا يحتمله بشر على الإطلاق، بيد أن الإنسان يجد أيضاً مع كل نوع من أنواع الأذى، ومع كل مرحلة من مراحله رداً إلهياً على هذا الإيذاء مواساةً، وتطميناً، وإكراماً، وتأييداً، حتى لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما قد يدخل إليها اليأس، وما الإسراء والمعراج في حقيقته إلا ردٌّ إلهي تكريمي على المحنة القاسية التي كشفت حقيقة الحرص النبوي على هداية قومه، وكشفت صبره الجميل على إيذائهم، وموقفه النبيل والرحيم منهم حينما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الجبلين، وهو الرد الإلهي على دعائه في الطائف، ولعل معنى قوله تعالى في آخر آية الإسراء:
﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
( سورة الإسراء )
أي سمع الله دعاءك يا محمد في الطائف، وعلم منك حرصك على هداية قومك الذين بالغوا في الإساءة إليك.
أيها الإخوة الكرام، هذه الحقيقة يمكن أن تنسحب على المؤمن بشكل أو بآخر، فقوله تعالى:
﴿ فَإِنَّ مـَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾
( سورة الشرح )
هذا قانون، فشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد ضيق الأمر هي سنة الله في خلقه.
ربنا سبحانه وتعالى نكر كلمة يسراً تنكير تعظيم، المراد به اليسر العظيم، أو يسر الدارين، وكلمة مع تفيد الإشعار بمجيء اليسر كأنه مقارن للعسر، والتكرير يفيد التأكيد، أو يفيد أن يسر الآخرة يأتي بعد يسر الدنيا، وفي اللغة العربية أن المعرف إذا كُرِّر يكون الثاني عين الأول، وأن المنكر إذا كُرر يكون الثاني مغايراً للأول، فصار في الآية يسران وعسر واحد، لذلك بناء على هذه القاعدة أثر عن النبي أنه قال:
(( لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ))
[ أخرجه مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب ]
كن عن همومك معرضـا وكِلِ الأمور إلى القـضا
و أبشر بخير عاجـــل تنسَ به ما قد مضــى
فلرب أمر مسخــــط لك في عواقبـه رضـى
ولربما ضاق المضيــق ولربما اتسع الفضـــا
الله يفعل ما يشــــاء فلا تكن معتـرضـــاً
الله عودك الجميــــل فقس على ما قد مضــى
***
درس من أحداث الطائف قبل الإسراء والمعراج:
أيها الإخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، درسٌ آخر نتعلمه من رسول الله صلى الله عليـه وسلم، وهو في الطائف، فعندما سأله زيد بن حارثة متعجباً، يا رسول الله كيف تعود إلى مكة وقد أخرجوك، فأجابه النبي، يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه.
كلّ هذا الذي رآه النبي في الطائف من أهوال التكذيب، ومن أهوال السخرية والإيذاء، كل هذا الذي كان قد رآه في مكة من كفر وجحود، وتنكيل وإخراج، كل هذا على كثرته، وعلى شدته، وعلى قسوته لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى، وعلى قوة عزيمته الإيجابية في نفسه، فما كان الله ليتخلى عن دينه، وعن نبيه، وعن المؤمنين مهما بدت هجمة أعداء الدين قوية وشاملة، فالباطل عقيدة أو قوة إلى انهيار محقق، قال تعالى:
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾
( سورة الإسراء )
ومن ظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر رسله، ولا يتم أمره، ولا يؤيد جنده، ولا يعليهم، ولا يظهرهم على أعدائهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، من ظن ذلك فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى ما لا يليق بكماله وجلاله، وأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، فإن عزته وحكمته تأبى ذلك، ويأبى أن يذل أولياءه، وأن يكون النصر المستقر والظفر الدائم لأعدائه، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته.
سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً والحمد الله رب العالمين.
***
الخطبة الثانية:
المعجزة:
1 ـ إذا كان أصل الاعتقاد ضعيفا فلا عبرة بالحديث عن المعجزة:
أيها الإخوة الكرام، كلمة قصيرة عن حقيقة المعجزة، بادئ ذي بدئ لا معنى للحديث عن المعجزات التي هي خرق للنواميس والعادات، وعن جزئياتها، وعن وقوعها أو توهمها، إذا كان أصل الدين الذي يتلخص في الإيمان بالله، موجوداً، وواحداً، وكاملاً، والإيمان أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وفعال لما يريد، إذا كان هذا الأصل محل إنكار أو شك فلا معنى للحديث عن المعجزات أصلاً، فالناس يخاطبون عادة بأصول الدين، والمؤمنون يخاطبون بفروع الدين، والحديث عن المعجزات من فروع الدين، فإذا كان الأصل مهتزاً فلا جدوى من الحديث عن المعجزات.
2 ـ الكون كلّه معجزة:
ثم إن الكون بمجراته وكازاراته، بكواكبه ومذنباته بالمسافات البينية والسرعات الضوئية بحجوم النجوم وسرعاتها، بدورانها، وتجاذبها، والأرض بجبالها، ووديانها، وسهولها، وقفارها، ببحارها، وبحيراتها، بينابيعها، وأنهارها، بحيواناتها، ونباتاتها، بأسماكها، وأطيارها، بمعادنها، وثرواتها، والإنسان بعقله، وعاطفته، وأعضائه، وأجهزته، بفطرته، وطباعه، بزواجه، وذريته هذه كلها معجزات، وأية معجزات، الكون بسماواته، وأرضه هو في وضعه الراهن من دون خرق لنواميسه، ومن دون خروج عن نظامه، هو في حد ذاته معجزة وأية معجزة، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
( سورة آل عمران )
3 ـ جسم الإنسان كلّه معجزة:
أيها الأخ الكريم، جسمك الذي هو أقرب شيء إليك إنه معجزة:
ففي رأس الإنسان ثلاثمائة ألف شعره لكل شعرة، بصلة ووريد وشريان وعضلة وعصب وغدة دهنية وغدة صبغية، أليست هذه معجزة، في شبكية العين عشر طبقات، في أخراها مائة وأربعون مليون مستقبل للضوء ما بين مخروط وعصية، ويخرج من العين إلى الدماغ عصب بصري يحوي خمس مائة ألف ليف عصبي، ولو درجنا اللون الأخصر مثلاًً ثمان مائة ألف درجة لاستطاعت العين السليمة أن تميز بين درجتين أليست هذه معجزة ؟
وفي الأذن ما يشبه شبكية العين، وفيها ثلاثون ألف خلية سمعية لنقل أدق الأصوات، وفي الدماغ جهاز يقيس التفاضل الزمني لوصول الصوت إلى كل من الأذنين، وهذا التفاضل يقل عن جزء من ألف وستمائة جزء من الثانية وهو يكشف للإنسان جهة الصوت، أليست هذه معجزة ؟
وعلى سطح اللسان تسعة آلاف نتوء ذوقي لمعرفة الطعم الحلو والحامض، والمر والمالح، وإن كل حرف ينطقه اللسان يسهم في تكوينه سبع عشرة عضلة، فكم حركة تحرَّكتها عضلات اللسان في خطبة تستغرق ساعة من الزمن، أليست هذه معجزة.
وفي الإنسان مضخة تعمل دون كلل أو ملل، تضخ ثمانية أمتار مكعبة من الدم في اليوم الواحد، وتضخ في العمر المتوسط ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم، إنه القلب أليس القلب معجزة ؟
وفي دماغ الإنسان أربعة عشر مليار خلية قشرية، ومائة مليار خلية استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، بل إن دماغ الإنسان أعقد ما في الإنسان، وهو عاجز عن فهم ذاته أليس الدماغ معجزة ؟
وفي جدار المعدة مليار خلية تفرز من حمض كلور الماء ما يزيد على عدة أمتار في اليوم الواحد، وقد جهد العلماء في حل هذا اللغز، لَمَ لا تهضم المعدة نفسها ؟ أليست المعدة معجزة ؟
وفي الأمعاء ثلاثة آلاف وستمائة زغابة معوية للامتصاص في كل سم مربع وهذه الزغابات تتجدد كلياً في كل ثمان وأربعين ساعة، أليست الأمعاء الدقيقة معجزة وتحت سطح الجلد يوجد حوالي ستة عشرة مليون مكيف لحرارة البدن هي الغدد العرقية، أليست هذه الغدد معجزة، وفي الكبد ثلاث مائة مليار خلية يمكن أن تجدد كلياً خلال أربعة أشهر ووظائف الكبد كثيرة وخطيرة ومدهشة في الإنسان، حيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا كبد أكثر من ثلاث ساعات، أليس الكبد معجزة ؟
وفي الكُليتين مليونا وحدة تصفية طولها مجتمعة مائة كيلومتر يمر فيها الدم في اليوم مرات كثيرة أليست الكلية معجزة ؟
خاتمة:
أيها الإخوة الكرام، غير أن الإنسان لانهماكه بمشاغله، وغفلته عن خالقه، ولطول إلفته لما حوله ينسى وجه الإعجاز فيما حوله، وعظمة الخالق فيما خلق، فيحسب جهلا منه، وغرورا أن المعجزة هي تلكم التي تفاجئ ما ألفه واعتاده، ثم يمضي هذا الإنسان الجاهل يتخذ مما ألفه، واعتاده مقياساً لإيمانه بالأشياء، أو كفره بها، وهذا جهل عجيب في الإنسان، مهما ارتقى في مدارج المدنية والعلم، تأمل يسير من الإنسان يوضح له بجلاء أن الخالق جل وعلا الذي خلق معجزة هذا الكون كله ليس عسيراً عليه أن يزيد فيه معجزة أخرى، أو أن يبدل، أو أن يغير في بعض أنظمته التي أنشأ العالم عليها.
يقول بعض العلماء الغربيين: القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه، أو إضافة شيء إليه، ولو لم يكن هذا العالم موجودا، وقيل لواحد ممن ينكر المعجزات والخوارق: سيوجد عالم كذا وكذا، فإنه سيجيب فوراً: هذا غير معقول، ولا متصور، ويأتي إنكاره هذا أشد بكثير من إنكار بعض المعجزات.
والحمد لله رب العالمين
مواضيع مماثلة
» مقدمة -1- معرفة السيرة النبوية فرض عين على كل مسلم
» اتحاد المعجزة بالمنهج
» : حقيقة النصر
» تطابق المعطيات العلمية مع حقيقة هذا الدين.
» خ1 -حقيقة الاحتفال بذكرى المولد ، خ 2 - عبادة التفكر
» اتحاد المعجزة بالمنهج
» : حقيقة النصر
» تطابق المعطيات العلمية مع حقيقة هذا الدين.
» خ1 -حقيقة الاحتفال بذكرى المولد ، خ 2 - عبادة التفكر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى