طريق نجاة الأمة لا يكون إلا بالعلم والعقل والدين
صفحة 1 من اصل 1
طريق نجاة الأمة لا يكون إلا بالعلم والعقل والدين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
المذيع:
وبنعمته تتم الصالحات ، وبنعمته سبحانه وتعالى نجري هذا اللقاء الخاص الذي يجمعنا بعالم جليل الدكتور محمد راتب النابلسي لنتحدث معه حول معنى السعادة الحقيقية ، حول العقل والنقل ، حول دور العلماء الحقيقي في نهضة الأمة ، ومواضيع أخرى سعيد جداً بوجودكم بيننا ، فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم في تونس.
الدكتور راتب :
بارك الله بكم وبإذاعتكم ومحطتكم وبلادكم .
المذيع:
نراكم دائماً في محطات تلفزيونية ؛ اقرأ ، والرسالة ، وغيرها ، وشرف لقناة المتوسط أن تكون بيننا اليوم لنتحدث معكم حول مواضيع كثيرة قبل أن نتحدث معكم عن أول سؤال، بعض المشاهدين الكرام ما عندهم فكرة عمن هو ضيفنا هذا المساء ، لنشاهد هذا التقرير الذي أعدته زميلتنا إناث الخشيشي لتقدم لمحة بسيطة عن عالم جليل وكبير فمع هذا التقرير .
أرحب بكم سيدي مرة أخرى في قناة المتوسط .
الدكتور راتب :
وبقناتكم وببلدكم .
المذيع:
سيدي ما استمعنا به يعطينا انطباعاً عن الإسلام ، على أنه دين ، علم ، تفكر ، ومعرفة ، إلا أنه للأسف في أيامنا هذه من بني جلدتنا من يسوق الإسلام على أنه طقوس وتمائم ، تجعل من العالم الشرعي شبه مشعوذ ، عدو للعلم بعيد عن مشاريع الناس .
الحقّ لا يقوى إلا بالتحدي و المعركة بينه و بين الباطل أزلية :
الدكتور راتب :
أقول وبالله المستعان أن الله جل جلاله واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود ، الكون ما سواه ، ومعنى ممكن الوجود أي ممكن أن يكون على ما هو كائن ، أو على خلاف ما يكون ، أليس من الممكن أن يكون الكفار في كوكب آخر ونرتاح كلياً أو أن يكونوا في قارة خاصة ؟ أو في حقبة خاصة ؟ لكن شاءت حكمة الله أن نكون معاً ، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي ، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية ، فحكمة الله أن تكون هذه المعركة بين الحق والباطل أزلية أبدية .
المذيع:
ولكن من بني جلدتنا من يقول : إن العالم للرقية ولا يمكن أن نستعين بالدين في المعيشة .
الدكتور راتب :
﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾
[ سورة الأنعام : 91]
الشيء الطبيعي جداً أن هناك حقاً و هناك باطلاً ، والباطل يتكلم وقد يزخرف كلامه لكن في النهاية :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[سورة الأعراف: 128]
المذيع:
العلم يلعب دوراً مركزياً في العلم الشرعي ؟
ثقة المؤمن بنصر الله :
الدكتور راتب :
أنا أقول كما قلت في المقدمة : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، لكن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل.
طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
أخانا الكريم والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، أنا أرى أن أعدى أعداءِ الإنسان الجهل ، ومشكلة الجهل أنه يوجد عندنا جاهل بسيط ، وجاهل مركب ، من الناس من يدري ، ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه ، منهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافل فنبهوه ، من الناس لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ، أما الرابع فمن الناس من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه .
معركة الحق والباطل أزلية أبدية ، وأهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية ، و هذا كلام النبي الكريم :
((لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي و لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال))
[الترمذي عن أنس بن مالك]
النبي الكريم - الفرق الثقة بالله - في هجرته أهدر دمه، ووضع مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، تبعه سراقة ، قال له النبي الكريم : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ماذا تعني هذه الكلمة ؟ أنا سأصل إلى المدينة سالماً ، وسأنشئ دولة، وسأنشئ جيشاً ، وسأحارب أكبر دولتين في العالم ، وسأنتصر عليهما ، وسوف تأتي إلى المدينة غنائم كسرى ، و لك يا سراقة سوار كسرى، هذه ثقة النبي بنصر الله .
من صفات المؤمن أنه واثق أن الله سينصره ، أما لو حذفنا هذه الثقة فسينتهي الدين.
المذيع:
حتى لو بدا عكس ذلك .
الدكتور راتب :
طبعاً امتحان من الله .
المذيع:
تحدثتم فضيلة الشيخ عن العلم فهل تقصدون في ذلك العلم الوضعي أم العلم الشرعي؟
الفرق بين العاقل و الذكي :
الدكتور راتب :
والله هو مطلق العلم ، إلا أن هناك علماً يمتع ولا ينفع ، هناك علم ينفع لكن في الدنيا فقط ، أما أن تعرف الله ، أن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، وعلة وجودك ، أن تعرف لماذا خلقت ، ماذا أعدّ الله لك في الآخرة ؟ هذا العلم الذي ينفع ، لذلك قالوا : ما كل ذكي بعاقل . قد تحمل دكتوراة في الفيزياء النووية فإن لم تعرف سرّ وجودك ، ولا غاية وجودك، ولا علة وجودك ، ولا من هو ربك العظيم ، ولا الجنة وما فيها من نعيم مقيم ، فأنت لا تعد عاقلاً بل ذكياً.
المذيع:
يقول الله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
[ سورة البقرة: 26]
فما تعليقكم على هذه الآية الغاية في الروعة ؟
التفكر في السموات والأرض العبادة الأولى في الإسلام :
الدكتور راتب :
التعليق على هذه الآية : ما من مخلوق أهون على الإنسان من بعوضة ، فلو وقفت بعوضة على يده فقتلها هل يشعر لثانية واحدة أنه قاتل؟ لا شأن لها إطلاقاً ، بل إن النبي قال :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
[ الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ]
لكن بعد أن اخترع المجهر الإلكتروني تبين أن في رأسها مئة عين، ، وفي صدرها ثلاثة قلوب ؛ قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، والبعوضة تملك جهازاً لا تملكه الطائرات ، تملك جهاز استقبال حراري ، أي إنها ترى الأشياء لا بأشكالها ، ولا بألوانها ، ولا بأحجامها ، بل بحرارتها ، وحساسية هذا الجهاز واحد على ألف من الدرجة المئوية ، والبعوضة تملك جهازاً لتحليل الدم ، فما كل دم يناسبها ، تحلل قبل أن تأخذ الدم ، و معها جهاز تمييع للدم ، وجهاز تخدير، أما في خرطومها فيوجد ست سكاكين ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع ، وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب لامتصاص الدم ، هذا كله في البعوضة فما فوقها ، فهذه البعوضة أحقر مخلوق في نظر الإنسان ، تنطوي على هذه الدقة في الخلق ، لذلك حكمة الله في أكبر مخلوقاته كالحوت الأزرق الذي يزن مئة وخمسين طناً وفي البعوضة التي وزنها واحد على ألف من الغرام ، أي كل ألف بعوضة غرام واحد .
المذيع:
يبدو أنها أحد السبل للتعرف على الله عز وجل .
الدكتور راتب :
لذلك التفكر في السموات والأرض هذه العبادة الأولى في الإسلام ، سماها العلماء عبادة التفكر ، أصلها في الدين :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
[ سورة آل عمران: 190-191 ]
فالتفكر في خلق السموات أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله، لأنه يضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله .
المذيع:
الناس في أغلب الأحيان يتحدثون عن حبنا له ، ولكن قلّما نجد من يتحدث عن حب الله لنا ، فما هي العلاقة المثلى بيننا وبين الله ؟ علاقة الخوف أم الرجاء أم الحب أم ثمة علاقة أخرى ؟
العلاقة المثلى بين العبد و ربه :
الدكتور راتب :
والله هناك حالة بينهما :
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
[ سورة الرحمن:78]
أي يجب أن تعظمه إلى أعلى درجة ، وأن يرافق هذا التعظيم محبة ، ممكن أن تكون قاسياً فالناس يخافونك ، ويمكن أن تكون سهلاً فالناس يتجاوزونك ، لكن البطولة أن تحيرهم أن يحبوك بقدر ما يخافوك ، القضية دقيقة جداً هذا درس للأب والأم والمعلم والمرشد أو لأي منصب قيادي، يجب أن يحبوك بقدر ما يخافوك ، أو يخافوك بقدر ما يحبوك ، هذه قضية تحتاج إلى توازن ، أن تمسك العصا من طرف سهل جداً ، من الطرف الأيمن أو الأيسر ، أما أن تمسكها من الوسط وأنت متوازن دائماً فهذا شيء صعب ، أن يكون المؤمن على محبة لله بقدر ما يكون على خوف منه ، وهذا درس للآباء والأمهات ولأي قيادي ، القسوة البالغة أنهت العلاقة معه ، والتساهل الشديد تجاوزوه ، لا تكن ليناً فتعصى ولا قاسياً فتكسر.
المذيع:
بين الخوف والرجاء ، الناس يعيشون سعادة الدكتور حياتهم كلها حتى يزوروا المقابر دون معرفة حقيقة الإنسان.
تميز الإنسان بالتفكر عن بقية المخلوقات :
الدكتور راتب :
أنا ما قرأت تعريفاً جامعاً مانعاً للإنسان كتعريف الإمام الحسن البصري : الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه . ولأنه زمن بالمناسبة الأشياء المادية لها كتلة ، لها وزن ، لها حجم ، أما الأشياء النباتية فهي كتلة لها وزن ، ولها حجم ، وأبعاد ثلاثة ، وتشغل حيزاً من الفراغ ، لكن النبات ينمو ، تميز عن الجماد بالنمو ، أما الحيوان فشيء له وزن ، وحجم ، وأبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً من الفراغ ، وينمو كالنبات لكنه يتحرك ، تميز عن النبات بالحركة ، أما الإنسان فله وزن ، وله حجم ، وأبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً من الفراغ ، وينمو كالنبات ، ويتحرك كبقية المخلوقات ، لكنه يفكر ، أودع الله في الإنسان قوة إدراكية ، هذه القوة الإدراكية الاستجابة لها طلب العلم ، فالإنسان ما لم يطلب العلم هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، فلذلك الإنسان يتحرك ويأكل ويشرب وينام ، كل هذه الصفات يشترك بها مع بقية المخلوقات ، إلا التفكر والقوة الإدراكية التي أعطاه الله إياها ، هذا التفكر من أجل أن يعرف الله :
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
[ تفسير ابن كثير]
الاستقامة على أمر الله أساسها حرص الإنسان على سلامته و سعادته :
الإنسان سعادته أن يتصل بالله ، الإنسان في الأعمّ الأغلب يحب الجمال والكمال والنوال ، والأشياء الثلاثة متوافرة في هذا الدين العظيم ، فالإنسان طبعاً كواحد من سبعة مليارات ومئتي مليون ما منهم واحد إلا ويحب سلامته ، والسلامة بالاستقامة ، لأن الإنسان أعقد آلة في الكون ، هذا التعقيد تعقيد إعجاز لا عجز ، ولهذه الآلة صانع عظيم ، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة ، وانطلاقاً من حرص الإنسان على سلامته يجب أن يستقيم على أمر الله ، أما من حرصه على سعادته فيجب أن يقدم لله شيئاً ، العمل الصالح يضمن له سعادته :
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
[ سورة فاطر: 10]
هذا العمل الصالح يرفع إلى الله يعود من الله على صاحبه السكينة ، هذه السكينة يسعد بها ولو فقد كل شيء ، بل يشقى بفقدها ولو ملك كل شيء ، فالسعادة التي يعيشها المؤمن لا يمكن أن يتصورها غير المؤمن ، لأن هذه السعادة اتصال بالمطلق ، اتصال بالإله العظيم ، اتصال بالجميل ، بالقوي ، بالغني ، بالرحيم ، بالحليم ، فلذلك مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، إنّ بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّارها هم عمّارها، فطُوبى لِعَبْد تطهّر في بيته ثمّ زارني، وحُقّ على المزور أن يُكْرم الزائر.
ملازمة الأمن للإيمان و الشرك للخوف :
كيف يكرمك الله عز وجل إذا اتصلت به ؟ قال تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه:14]
وقال تعالى:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
[ سورة البقرة: 152]
إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية ، لكن الله إذا ذكرك منحك نعمة لا يتمتع بها إلا المؤمن ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81-82 ]
ما قال : أولئك الأمن لهم ، الأمن لهم ولغيرهم ، أما عندما قدمنا شبه الجملة لهم أي العبارة فيها قصر، فالأمن لهم وحدهم، أي لا يتمتع بنعمة الأمن إلا المؤمن ، أما الآخرون :
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا ﴾
[ سورة آل عمران: 151]
الإيمان يلازمه الأمن والشرك يلازمه الخوف ، فيصبح أقوى قوة في الأرض .
المذيع:
هناك علاقة بالطمأنينة كذلك ؟
الدكتور راتب :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد : 28 ]
أنت مع من ؟ مع الخالق ؟ مع المسير ؟ مع الغني ؟ مع القوي ؟ مع الرحيم ؟ أنا أقول إذا تعرفت إلى الله ، وأخلصت له ، واتصلت به ، إن لم تقل ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني فهناك مشكلة في الإيمان .
المذيع:
كأنكم ربطتم مسألة السعادة بتحقيق الربوبية لله تعالى فلو فسرت لنا العلاقة بين العبودية والسعادة ؟
العلاقة بين العبودية و السعادة :
الدكتور راتب :
هناك ذلة وسعادة ، الحقيقة اللذة حسية تأتي من طعام طيب ، من منظر جميل ، تأتي من الجمال ، هذه اللذة لها شروط ثلاثة ؛ تحتاج إلى وقت ، وإلى صحة ، وإلى مال ، لحكمة بالغة بالغة الإنسان دائماً تنقصه إحدى هذه ، في البداية لا يوجد مال هناك صحة وقوة ، بمنتصف حياته صار هناك مال و صحة لكن لا يوجد وقت ، بعد أن سلّم المعمل لأولاده صار عنده وقت ومال لكن لا يوجد صحة ، فلذلك اللذة لا تكتمل لإنسان ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
المذيع:
اسمحوا لي أن أعيد لكم ما فهمته من حضرتكم ، قلتم : إن اللذة مؤقتة وليست دائمة وهي مرتبطة بالحس ، وأن السعادة الحقيقية لا تتوفر في أغلب الأحيان ؟
الدكتور راتب :
ينقص الإنسان واحدة أما السعادة فأن تتصل بأصل الجمال والكمال والنوال .
المذيع:
المسلمون ينتمون إلى دين عظيم فيه كهذه الحكم والعبر الكثير إلا أن حال المسلمين لا تسر أحداً ، هل أصابنا الوهن ؟
حاجة الدين إلى الاستقامة :
الدكتور راتب :
حالتهم التي لا تسر أحداً تؤكد عظمة دينهم ، لأنهم لما تركوه أصابهم ما أصابهم ، تؤكد عظمة هذا الدين الذي يحتاج إلى استقامة ، كيف إذا سألنا أحداً : هل تلخص التجارة كلها بكلمة واحدة ؟ مليون نوع ، مليار مستوى في العالم كله ، أنا ألخص التجارة كلها بكلمة واحدة إنها الربح ، فإن لم تربح فلست تاجراً ، هناك مليون مجلد عن الدين وعن تفاصيله ؛ العقائد والفقه والعبادات والمعاملات والأخلاق وأصول الفقه وأحكام الفقه والفقه المقارن ، لكن كل هذا الدين يلخص بكلمة واحدة الاستقامة ، فإن لم تستقم على أمر الله لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، الدين من دون استقامة فلكلور إسلامي ، خلفية إسلامية ، أرضية إسلامية ، توجهات إسلامية ، أقوال إسلامية ، أقواس إسلامية ، بطاقة معايدة إسلامية ، هذه ممتلئة في حياتنا ، أما حينما يقول النبي الكريم :
(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))
[أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]
والمسلمون يزيدون عن مليار وسبعمئة مليون وليست كلمتهم هي العليا ، وليس أمرهم بيدهم ، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل .
المذيع:
هل أصابهم الوهن ؟
الإسلام منهج تفصيلي يشمل كل جوانب الحياة :
الدكتور راتب :
قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
أخي الكريم اللغة دقيقة جداً ، لو سألك إنسان : هل أنت جائع ؟ تقول : لا فقط يكفي، لكن إنساناً محترماً له مكانة كبيرة لو سأله أحدهم هل أنت سارق ؟ لا يقول : لا ، يقول: ما كان لي أن أسرق ، هذا نفي الشأن لا نفي الحدث ، نفي الشأن لا أوافق ، ولا أرضى ، ولا أقبل، ولا أغطي ، ولا أدعو ، عدّ العلماء عشرة أفعال تنفى بكلمة ما كان ، الآن تمهيد :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن نعذب وسنة النبي مطبقة في حياتنا :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
ومنهجك فيهم ، وأمرك ونهيك فيهم :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
لي ملاحظة دقيقة ؛ أخوتنا المشاهدون أحياناً يتوهمون الإسلام عبادات شعائرية صوم وصلاة وحج وزكاة مع أن النبي الكريم يقول :
((بني الإسلام على خمس))
[البخاري وابن خزيمة عن عبد الله بن عمر ]
الخمس غير الإسلام هذه قواعد ، الإسلام منهج تفصيلي والله لا أبالغ قد يصل لخمسمئة ألف بند ، من فراش الزوجية وهو من أخصّ خصوصيات الإنسان وينتهي بالعلاقات الدولية ، فما لم تخضع لهذا المنهج في كسب مالك ، في إنفاق مالك ، في اختيار زوجتك ، في معاملة زوجتك ، في تربية أولادك ، في علاقتك بجيرانك ، لمن هو فوقك ، لمن هو تحتك ، لمن هو حولك ، منهج تفصيلي ، بل إن هذا المنهج يبدأ كما قلت قبل قليل من أخصّ خصوصيات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية .
المذيع:
ولكن البعض يقول العكس : هذا الدين إذا دخل على شيء يخص الشأن العام أفسده، أو أفسد المقدس ، بالتعبير الأكثر دقة إدخال الدين في الشأن العام يدنس هذا المقدس .
سقوط المفاهيم الراقية عند الناس تكون بالمتاجرة بالدين :
الدكتور راتب :
الجواب إما أن تؤمن بهذا الدين ، وتبذل من أجله الغالي والرخيص والنفس والنفيس وإما أن تتاجر به ، فإذا تاجرت به كان الذي كان ، الدين لا يتاجر به ، أنت حينما تجعل من أحكام الدين مادة تجارية تتفوق بها على من حولك هذا شيء واقع الآن ، حينما تاجرنا بالدين سقطت هذه المفاهيم الراقية عند الناس .
المذيع:
ما السبيل إلى حلّ هذا المشكل حتى لا ننسى الأصل ؟
تحطيم الأمة يكون بإضعاف الأسرة والمدرسة والمرجعية الدينية :
الدكتور راتب :
الأمة عاشت ثلاثين عاماً أو أربعين عاماً في فساد وانحراف وتقصير ، الأمر لا يصحح بيوم ولا بسنة ، فلا بد من تربية جيل من البدايات ليكون القاعدة الأولى لهذا المجتمع، وهذه القاعدة الأولى تفرز قاعدة أصغر وأصغر وأصغر إلى القمة ، فلا يعقل أن تبني الهرم من الحجر الأعلى يجب ان تبدأ بناءه من القاعدة ، ما لم نعتمد التعليم ، مالم نعتمد أن التعليم هو بدء نهضة الأمة ، ما لم تعتمد المعلم الواعي الذي يؤمن بدينه ووطنه وقيمه ، هذا المعلم هو حجر الأساس بالنهضة ، ومع ذلك دائماً هناك تخطيط خطير جداً استعماري أن تضعف قيمة المعلم بإفقاره ، فحينما يضعف المعلم تنتهي الأمة ، ابنك من يربيه غير المعلم ؟ المعلم فقير يعمل بعد الظهر و قبل الظهر ، فحينما نضعف المعلم ونضعف المرجعية الدينية ونضعف الأسرة ، ثلاث مراحل ، الأسرة والتعليم والمرجعية الدينية ، فإذا أوحينا للأم أنك إن كنت ربة منزل فلا شأن لك أخرجناها من البيت تفلت أولادها ، وإذا طعنا بالمعلم وهو حجر الأساس بالنهضة وأضعفناه مالياً واجتماعياً انتهى التعليم ، ثم أضعفنا المرجعيات الدينية فهاجمناها ، لذلك إذا أردت أن تحطم الأمة أضعف الأسرة والمدرسة والمرجعية الدينية .
المذيع:
للأسف لم يبق الكثير ، يقول البعض : إن حقوق الإنسان مفقودة في الإسلام ، يقول آخرون : لما مورس تطبيق تعاليم الإسلام في بعض الأماكن أو يزعم أنها تطبق وجدنا سفكاً للدماء ، ووجدنا اعتداء على حقوق الإنسان ، هل توجد بعض الآيات أو الأحاديث التي تتحدث عن حقوق الإنسان ؟
إعطاء الدين الإسلامي الإنسان حقوقه و حفظها له :
الدكتور راتب :
والله أنا لا أنحاز إلى الدين لأنني أدعو إلى الله ، لكن الحقيقة الموضوعية أنه ما من دين أعطى حقوق الإنسان كالدين الإسلامي ، هذا الطفل يجب أن ترعاه قبل أن يولد بحسن اختيار امه ، الطفل له حق عليك ، من قال في الأرض : إن حق الطفل على الأب يبدأ قبل الزواج ؟ فالحقيقة هذا منهج إلهي ، أنت حينما تقول : منهج خالق الأكوان منهج العلم المطلق، والخير المطلق ، والمكانة المطلقة ، والقيم المطلقة ، والحق المطلق ، أنت مع المطلقات في الدين ، المشكلة المؤلمة أن القلة القليلة ممن يتاجر بالدين يشوهون سمعة الدين في كل الأنحاء، كنت مرة في أوربا أقسم لي أحدهم قال : والله تتمتع الجاليات الإسلامية بأعلى مستوى من الفهم و الوعي ، لكن قلة قليلة من هذه الجاليات تشوه سمعة كل الجاليات ، المشكلة كبيرة جداً فلذلك نحن في محنة كبيرة ، والمحنة وردت في بعض الشواهد الإسلامية ، نحن بآخر الزمان ، يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، إن تكلم قتلوه ، وإن سكت استباحوه، موتٌ كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ؟ ولا المقتول فيمَ قُتل ؟ هناك شواهد كثيرة جداً إذا أسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة .
(( إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فالزم بيتك ، وأمسك لسانك ، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ...))
[ أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ]
موضوع طويل فنحن في آخر الزمان نعاني ما نعاني .
المذيع:
ما السبيل إلى النجاة ؟
العلم سبيل نجاة الأمة :
الدكتور راتب :
أنا لا أرى سبيلاً للنجاة إلا العلم ، الإنسان كائن فحينما يقتنع أن هذا العمل لصالحه يفعله ، أي الدين توقيفي لا يضاف عليه ولا يحذف منه ، إنك إن أضفت عليه اتهمته بالنقص ، وإن حذفت منه اتهمته بالزيادة ، ولكن التجديد في الخطاب الديني لماذا ؟ الخطاب الديني هو الذي يتفاعل معه الناس ، فحينما يكون هذا الداعية مطبقاً لما يقول ترتقي الدعوة ، لذلك قالوا : القدوة قبل الدعوة . والإحسان قبل البيان ، فأنا لا أقنع بأذني أقنع بعيني ، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، فالقدوة قبل الدعوة ، أنا أريد كما يقال : الكون قرآن صامت ، و القرآن كون ناطق ، و النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي ، ما لم يرّ الناس إسلاماً يمشي إن حدثك فهو صادق ، إن عاملك فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، ما لم تر إسلاماً يمشي أمامك لن تقنع بهذا الدين كفكر ، كمحاضرات ، كخطب ، كبيانات ، هذا الآن لا يقدم ولا يؤخر ، نريد إسلاماً يمشي أمامنا ، نريد أن نراه بعيوننا لا بآذاننا .
المذيع:
كما قيل : إن النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي في الأسواق وبين الناس.
الدكتور راتب :
فالآن الإسلام يمشي في الأسواق.
المذيع:
تميزت محاضراتكم بأنها إضافة أنها تتحدث عن الرقائق والروحانيات تحدثت أيضاً عن العلم والإعجاز العلمي إلا أن البعض يقول : إن السمت البالغ على محاضراتكم هو هذان الأمران ، فهل هو خيار لفضيلتكم ؟
من أحسن توجيه الناس إلى الله فارتقاء الشأن العام آلية حتمية :
الدكتور راتب :
أنا قناعتي الشيء العام ينبع من الشيء الخاص أولاً ، الشيء العام أساسه شيء خاص ، فإذا أحسنت توجيه الناس إلى الله عز وجل فارتقاء الشأن العام آلية حتمية ، أنا إذا اهتممت بالشأن العام و لم يكن هناك أرضية لهذا الشأن العام ، لا يوجد روادع ، أنت تقدر أن تحاسب إنسان إذا أخطأ أمامك ، فإذا غاب عنك لا يوجد قوة تضبطه ، هذا الذي يعمل في الفرن الساعة الثانية ليلاً إذا دخل إلى الخلاء ولم يغسل يديه وتابع العجين من يضبطه ؟ لا يمكن أن تضبط الأمور إلا بالإيمان ، هناك ضبط إلكتروني بأي سوق في أوربا أو أمريكا ، تحمل حاجة لم تدفع ثمنها هناك لصاقة على هذه الحاجة تعطي أمر إنذار ، تغلق الأبواب ، وتُصدر أصوات مخيفة جداً ، فالناس مستقيمون استقامة الكترونية ، أما عندما قطعت الكهرباء في بعض دول أمريكا تمت مئتا ألف سرقة بقيمة ثلاثين مليار دولار لساعات ، فالانضباط الكتروني ، أما أنا فأريد انضباطاً ذاتياً ، هذا الانضباط :
(( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))
[ كنز العمال عن عمر]
سيدنا عمر يمشي في الطريق وجد راعياً ، قال له : بعني هذه الشاة وخذ ثمنها ؟ قال له : ليست لي ، قال : قل لصاحبها ماتت وخذ ثمنها ؟ قال : ليست لي، قال له : خذ ثمنها؟ قال له : والله إنني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ولكن أين الله ؟
أنا هكذا في اللحظة التي يبدأ الإنسان العربي يقول : أين الله ارتقينا ، ما دام قوياً وعنده إمكانيات أن يأخذ ما ليس له ، وعنده إمكانيات أن يكذب ويدجل ، نحن في الحضيض إلى أن نقول : أين الله ؟ إلى أن نحدث رقابة إلهية ذاتية علينا ، هذه تحتاج إلى جهد كبير .
المذيع:
جيء بأحد الصالحين وقيل له : قل بأمر ما يختلف مع ما يعتقد أنه صواب ، وهدد بالقتل ، الإمام أحمد في قضية خلق القرآن ولست متأكداً قيل له : إن الناس بحاجة إلى علمك فقل للسلطان عكس ما تعتقد أنه صحيح فقال قولاً مشهوراً : إن كان الناس بحاجة لعلمي فهم في حاجة أمس لمن يعلمهم المبدأ ، فيقول البعض : ربما ننتظر من علمائنا الصدع بقول الحق في مسائل تهم الشأن العام فكيف نقارن بين هذين الفهمين؟
العلماء أنواع ثلاثة :
الدكتور راتب :
والله العلماء بعضهم صدعوا ودفعوا ثمناً غالياً ، وبعضهم صمتوا ، وبعضهم نافقوا ، فالذين نافقوا سقطوا من عين الناس ، انتهوا ، والذي صدعوا ارتقوا كثيراً عند الله ، والباقون بين بين ، الناس يعذرونهم، الناس يعذرون الساكت ولا يعذرون المادح .
المذيع:
لا يعذرونه فقط بل يحبونه لأن فرق كبير بين المادح والساكت ، قال الدكتور عبد الله المصلح وكان ضيفاً هنا في نفس الكرسي الذي تجلسون حضرتكم عليه الآن سألناه عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فقال : هو رأس الحربة في الدعوة إلى الله ، فهل تشاطرونه الرأي؟
الإعجاز العلمي سبيل لإقناع الغرب بالإسلام :
الدكتور راتب :
أقول لك كلمة دقيقة : حينما صعد رواد الفضاء إلى القمر وتجاوزا طبقة الهواء ، وفي طبقة الهواء حادث فيزيائي اسمه انتثار الضوء ، ذرات الهواء تعكس بعض الأشعة على ذرات أخرى لم تصبها أشعة الشمس، في الأرض شيء اسمه ضياء ، وشيء اسمه أشعة ، فلما صعد رواد الفضاء كان هناك انتثار للضوء ، الأرض منيرة فلما تجاوزوا طبقة الهواء صاح رائد الفضاء بأعلى صوته : لقد أصبحنا عمياناً ، إذا تجاوزنا الغلاف الجوي وانعدم انتثار الضوء ، هذا حادثة بأبولو ثمانية ، أحد علماء مصر الكبار في الفلك كان حاضراً بنفسه في فلوريدا ، فإذا قرأت القرآن :
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾
[ سورة الحجر: 14-15]
ما هذا التطابق بين آية وردت قبل ألف وأربعمئة سنة وبين حقيقة علمية كشفها رواد الفضاء وهم في طريقهم للقمر ؟ شيء مذهل ، حينما يقول الله عز وجل :
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾
[ سورة الروم: 2-4]
أدنى الأرض غور فلسطين ، بعد اكتشاف أشعة الليزر تبين أن غور فلسطين أخفض نقطة في الأرض قطعاً فجاءت الآية تؤكد الحقيقة العلمية التي اكتشفت بأشعة الليزر، حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
[ سورة النجم : 45]
علم الأجنة بعد عمر مديد اكتشف أن الذي يحدد جنس الجنين - ذكر أو أنثى -ليست البويضة ولا علاقة لها بذلك ، لكنه الحوين ، فتأتي الآية :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
[ سورة النجم : 45-46]
أنا بهذا الموضوع هناك ألف وثلاثمئة آية في القرآن الكريم تبين عظمة هذا القرآن ، وأن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن ، أنا أرى الآن أن الغرب يؤمن بالعلم ، فإذا كشف حقيقة مذهلة في أيام قريبة ثم اكتشف أن القرآن يشير إليها ، الحقيقة القطعية التي ينبغي أن نؤمن بها أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن، فأنا لا أرى مادة الآن تقنع الغرب بالإسلام كالإعجاز العلمي .
المذيع:
هذا الدين الذي يعطي أهمية للعقل نجده في مواضع كثيرة يوجب الاعتماد على النقل فما الرابط بين العقل والنقل ؟
ارتباط العقل بالواقع و الوحي بالخالق :
الدكتور راتب :
أولاً : العقل مرتبط بالواقع ، السبب لو أحيينا إنساناً من قبره مات قبل خمسين عاماً، أعطيناه قرصاً مدمجاً ، هناك قرص مدمج فيه خمسة عشر ألف عنوان كتاب ، عنوان غير كتاب ، قد يكون الكتاب أربعين جزءاً ، ويمكن أن تبحث في هذه الكتب بأكملها في دقيقتين في أي موضوع ، لو أطلعنا الإنسان الذي عاش قبل خمسين عاماً على هذا الشيء لا يصدقه ، فالعقل مرتبط بالواقع ، أما الوحي فمرتبط بالخالق ، فهما بالأساس لا يعترضان ، لأن الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط ، خط النقل الصحيح ، كل كلمة معها صفة النقل الصحيح لأن هناك نقلاً غير صحيح ، وخط العقل الصريح ، هناك عقل تبريري غير صريح ، وخط الفطرة السليمة ، هناك فطرة منهزمة مكتومة ، وخط الواقع الموضوعي ، هناك واقع مزور ، فإذا كان الحق نقلاً صحيحاً وفطرة سليمة وعقلاً صريحاً وواقعاً موضوعياً كان هو الحق ، فعلى الداعي في هذه الدائرة أن يعطيك النص الصحيح ، ويعطيك التفسير الصحيح العقلي المنطقي الواقعي، ويعطيك موقف الفطرة منه ويعطيك أن الواقع يؤيد هذا الشيء ، فلهذا قالوا : العلم علاقة قطعية بين متغيرين ، تطابق الواقع ، عليها دليل ، لو ألغيت الدليل لكان تقليداً ، والله عز وجل لم يقبل الاعتقاد به تقليداً قال تعالى :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾
[ سورة محمد: 19 ]
لو قلدت العقيدة الصحيحة لا تقبل منك ، قال : فاعلم ، الحقيقة لو ألغيت الواقع لكان جهلاً ، لو ألغيت الدليل لكان تقليداً ، لو ألغيت العلاقة الثابتة القطعية لكان وهماً أو شكاً أو ظناً، خلاف العلم الوهم والشك والظن ، خلاف الدليل التقليد ، خلاف الواقع الجهل ، فالعلم علاقة قطعية بين متغيرين، تطابق الواقع عليها دليل ، فإذا كان ديننا دين علم ودين عقل ودين واقع هذه من نعمة الله الكبرى .
المذيع:
نتمنى أن ترجع إلينا مرات ومرات ؛ السؤال الأخير عن عزوف المسلمين في المشاركة وإبداء الرأي فيما يتعلق بالشأن العام ، ويقول : أنا لا يهمني ماذا سيفعل الحاكم ؟ لن يصلح حال الأمة ؟ سأبقى ملتزماً في بيتي .
عزوف المسلمين عن المشاركة وإبداء الرأي فيما يتعلق بالشأن العام :
الدكتور راتب :
هذا مرض نشأ من خمسة عقود سابقة ، حينما كان هناك القهر والاستبداد ، وإلغاء الآخر وإلغاء الاعتراض ، أي إنسان يعترض ينتهي ، تراكمت هذه الممارسات القمعية في العالم الإسلامي في العقل الباطن للإنسان ، فهذا العقل الباطن للإنسان حلّ مشكلته بالبعد عن السياسة كلياً ، بالبعد عن الشأن العام كلياً ، لأن القضية خطيرة جداً ، فلما صار هناك ربيع عربي وأتمنى ألا يكون خريفاً عربياً ، فلما صار ربيع عربي بقي الناس على حالتهم السابقة ، متقوقعين بعيدين عن المشاركة في الشأن العام ، أنا أقول : الذي لا يشارك في الشأن العام يدفع الثمن باهظاً ، وفي بعض البلاد الإسلامية دفع شعبها ثمناً باهظاً جداً جداً ، والسبب الواقعي والحقيقي أن هذا الشعب عزف عن الشأن العام ، وانتبه إلى شأنه الخاص ، فإذا عزف الإنسان عن الشأن العام واهتم بشأنه الخاص قد ينجح لفترة لكن بعد ذلك هناك درس بليغ جداً وهذا الدرس أتمنى ألا تقع به أمة أخرى ، لما نعزف عن الشأن العام ونهتم بالشأن الخاص هناك عقاب كبير من الله .
المذيع:
نسأل الله السلامة ، وصلنا لنهاية الحلقة فلكم فضيلة الشيخ كلمة الختام.
انتصار الأمة يكون بتطبيق منهج الله فقط :
الدكتور راتب :
والله إذا أردت نجاح الفرد ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾
[ سورة التحريم : 8 ]
إذا أردت نجاح الأمة فبتطبيق منهج الله ، الفرد له وسائل للنجاح ، أن يتعرف إلى الله ، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، فالعبد يرجع إلى الله ، الحقيقة هناك حركة أمامه تحركه ، هذه الحركة يجب أن تكون وفق منهج الله ، ما من شهوة أودعها الله بالإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، والدليل :
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
المعنى المخالف : الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه ، لا يوجد حرمان في الإسلام هناك ترشيد ، فنحن كفرد إذا اصطلحت مع الله ، وطبقت منهجه ، كل الشهوات التي أودعها الله فيك لها قنوات نظيفة عفيفة ترقى بها ، وأما الأمة حينما تطبق منهج الله فستنتصر ، إن لم تطبقه لا تنتصر هذا ملخص الملخص .
خاتمة و توديع
المذيع:
نسأل الله النصر لأمة الإسلام في جميع بقاع المسلمين ، أشكركم فضيلة الشيخ سعادة الدكتور محمد راتب النابلسي ، كان معنا في هذا اللقاء الخاص ، نسأل الله أن يجعل كل ما تفضل به الشيخ في ميزان حسناته ، مشاهدينا الكرام نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، دمتم في حفظ الله .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
والحمد لله رب العالمين
مقدمة :
المذيع:
وبنعمته تتم الصالحات ، وبنعمته سبحانه وتعالى نجري هذا اللقاء الخاص الذي يجمعنا بعالم جليل الدكتور محمد راتب النابلسي لنتحدث معه حول معنى السعادة الحقيقية ، حول العقل والنقل ، حول دور العلماء الحقيقي في نهضة الأمة ، ومواضيع أخرى سعيد جداً بوجودكم بيننا ، فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم في تونس.
الدكتور راتب :
بارك الله بكم وبإذاعتكم ومحطتكم وبلادكم .
المذيع:
نراكم دائماً في محطات تلفزيونية ؛ اقرأ ، والرسالة ، وغيرها ، وشرف لقناة المتوسط أن تكون بيننا اليوم لنتحدث معكم حول مواضيع كثيرة قبل أن نتحدث معكم عن أول سؤال، بعض المشاهدين الكرام ما عندهم فكرة عمن هو ضيفنا هذا المساء ، لنشاهد هذا التقرير الذي أعدته زميلتنا إناث الخشيشي لتقدم لمحة بسيطة عن عالم جليل وكبير فمع هذا التقرير .
أرحب بكم سيدي مرة أخرى في قناة المتوسط .
الدكتور راتب :
وبقناتكم وببلدكم .
المذيع:
سيدي ما استمعنا به يعطينا انطباعاً عن الإسلام ، على أنه دين ، علم ، تفكر ، ومعرفة ، إلا أنه للأسف في أيامنا هذه من بني جلدتنا من يسوق الإسلام على أنه طقوس وتمائم ، تجعل من العالم الشرعي شبه مشعوذ ، عدو للعلم بعيد عن مشاريع الناس .
الحقّ لا يقوى إلا بالتحدي و المعركة بينه و بين الباطل أزلية :
الدكتور راتب :
أقول وبالله المستعان أن الله جل جلاله واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود ، الكون ما سواه ، ومعنى ممكن الوجود أي ممكن أن يكون على ما هو كائن ، أو على خلاف ما يكون ، أليس من الممكن أن يكون الكفار في كوكب آخر ونرتاح كلياً أو أن يكونوا في قارة خاصة ؟ أو في حقبة خاصة ؟ لكن شاءت حكمة الله أن نكون معاً ، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي ، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية ، فحكمة الله أن تكون هذه المعركة بين الحق والباطل أزلية أبدية .
المذيع:
ولكن من بني جلدتنا من يقول : إن العالم للرقية ولا يمكن أن نستعين بالدين في المعيشة .
الدكتور راتب :
﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾
[ سورة الأنعام : 91]
الشيء الطبيعي جداً أن هناك حقاً و هناك باطلاً ، والباطل يتكلم وقد يزخرف كلامه لكن في النهاية :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[سورة الأعراف: 128]
المذيع:
العلم يلعب دوراً مركزياً في العلم الشرعي ؟
ثقة المؤمن بنصر الله :
الدكتور راتب :
أنا أقول كما قلت في المقدمة : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، لكن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل.
طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
أخانا الكريم والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، أنا أرى أن أعدى أعداءِ الإنسان الجهل ، ومشكلة الجهل أنه يوجد عندنا جاهل بسيط ، وجاهل مركب ، من الناس من يدري ، ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه ، منهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافل فنبهوه ، من الناس لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ، أما الرابع فمن الناس من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه .
معركة الحق والباطل أزلية أبدية ، وأهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية ، و هذا كلام النبي الكريم :
((لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي و لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال))
[الترمذي عن أنس بن مالك]
النبي الكريم - الفرق الثقة بالله - في هجرته أهدر دمه، ووضع مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، تبعه سراقة ، قال له النبي الكريم : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ماذا تعني هذه الكلمة ؟ أنا سأصل إلى المدينة سالماً ، وسأنشئ دولة، وسأنشئ جيشاً ، وسأحارب أكبر دولتين في العالم ، وسأنتصر عليهما ، وسوف تأتي إلى المدينة غنائم كسرى ، و لك يا سراقة سوار كسرى، هذه ثقة النبي بنصر الله .
من صفات المؤمن أنه واثق أن الله سينصره ، أما لو حذفنا هذه الثقة فسينتهي الدين.
المذيع:
حتى لو بدا عكس ذلك .
الدكتور راتب :
طبعاً امتحان من الله .
المذيع:
تحدثتم فضيلة الشيخ عن العلم فهل تقصدون في ذلك العلم الوضعي أم العلم الشرعي؟
الفرق بين العاقل و الذكي :
الدكتور راتب :
والله هو مطلق العلم ، إلا أن هناك علماً يمتع ولا ينفع ، هناك علم ينفع لكن في الدنيا فقط ، أما أن تعرف الله ، أن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، وعلة وجودك ، أن تعرف لماذا خلقت ، ماذا أعدّ الله لك في الآخرة ؟ هذا العلم الذي ينفع ، لذلك قالوا : ما كل ذكي بعاقل . قد تحمل دكتوراة في الفيزياء النووية فإن لم تعرف سرّ وجودك ، ولا غاية وجودك، ولا علة وجودك ، ولا من هو ربك العظيم ، ولا الجنة وما فيها من نعيم مقيم ، فأنت لا تعد عاقلاً بل ذكياً.
المذيع:
يقول الله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
[ سورة البقرة: 26]
فما تعليقكم على هذه الآية الغاية في الروعة ؟
التفكر في السموات والأرض العبادة الأولى في الإسلام :
الدكتور راتب :
التعليق على هذه الآية : ما من مخلوق أهون على الإنسان من بعوضة ، فلو وقفت بعوضة على يده فقتلها هل يشعر لثانية واحدة أنه قاتل؟ لا شأن لها إطلاقاً ، بل إن النبي قال :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
[ الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ]
لكن بعد أن اخترع المجهر الإلكتروني تبين أن في رأسها مئة عين، ، وفي صدرها ثلاثة قلوب ؛ قلب مركزي ، وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، والبعوضة تملك جهازاً لا تملكه الطائرات ، تملك جهاز استقبال حراري ، أي إنها ترى الأشياء لا بأشكالها ، ولا بألوانها ، ولا بأحجامها ، بل بحرارتها ، وحساسية هذا الجهاز واحد على ألف من الدرجة المئوية ، والبعوضة تملك جهازاً لتحليل الدم ، فما كل دم يناسبها ، تحلل قبل أن تأخذ الدم ، و معها جهاز تمييع للدم ، وجهاز تخدير، أما في خرطومها فيوجد ست سكاكين ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع ، وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب لامتصاص الدم ، هذا كله في البعوضة فما فوقها ، فهذه البعوضة أحقر مخلوق في نظر الإنسان ، تنطوي على هذه الدقة في الخلق ، لذلك حكمة الله في أكبر مخلوقاته كالحوت الأزرق الذي يزن مئة وخمسين طناً وفي البعوضة التي وزنها واحد على ألف من الغرام ، أي كل ألف بعوضة غرام واحد .
المذيع:
يبدو أنها أحد السبل للتعرف على الله عز وجل .
الدكتور راتب :
لذلك التفكر في السموات والأرض هذه العبادة الأولى في الإسلام ، سماها العلماء عبادة التفكر ، أصلها في الدين :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
[ سورة آل عمران: 190-191 ]
فالتفكر في خلق السموات أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله، لأنه يضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله .
المذيع:
الناس في أغلب الأحيان يتحدثون عن حبنا له ، ولكن قلّما نجد من يتحدث عن حب الله لنا ، فما هي العلاقة المثلى بيننا وبين الله ؟ علاقة الخوف أم الرجاء أم الحب أم ثمة علاقة أخرى ؟
العلاقة المثلى بين العبد و ربه :
الدكتور راتب :
والله هناك حالة بينهما :
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
[ سورة الرحمن:78]
أي يجب أن تعظمه إلى أعلى درجة ، وأن يرافق هذا التعظيم محبة ، ممكن أن تكون قاسياً فالناس يخافونك ، ويمكن أن تكون سهلاً فالناس يتجاوزونك ، لكن البطولة أن تحيرهم أن يحبوك بقدر ما يخافوك ، القضية دقيقة جداً هذا درس للأب والأم والمعلم والمرشد أو لأي منصب قيادي، يجب أن يحبوك بقدر ما يخافوك ، أو يخافوك بقدر ما يحبوك ، هذه قضية تحتاج إلى توازن ، أن تمسك العصا من طرف سهل جداً ، من الطرف الأيمن أو الأيسر ، أما أن تمسكها من الوسط وأنت متوازن دائماً فهذا شيء صعب ، أن يكون المؤمن على محبة لله بقدر ما يكون على خوف منه ، وهذا درس للآباء والأمهات ولأي قيادي ، القسوة البالغة أنهت العلاقة معه ، والتساهل الشديد تجاوزوه ، لا تكن ليناً فتعصى ولا قاسياً فتكسر.
المذيع:
بين الخوف والرجاء ، الناس يعيشون سعادة الدكتور حياتهم كلها حتى يزوروا المقابر دون معرفة حقيقة الإنسان.
تميز الإنسان بالتفكر عن بقية المخلوقات :
الدكتور راتب :
أنا ما قرأت تعريفاً جامعاً مانعاً للإنسان كتعريف الإمام الحسن البصري : الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه . ولأنه زمن بالمناسبة الأشياء المادية لها كتلة ، لها وزن ، لها حجم ، أما الأشياء النباتية فهي كتلة لها وزن ، ولها حجم ، وأبعاد ثلاثة ، وتشغل حيزاً من الفراغ ، لكن النبات ينمو ، تميز عن الجماد بالنمو ، أما الحيوان فشيء له وزن ، وحجم ، وأبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً من الفراغ ، وينمو كالنبات لكنه يتحرك ، تميز عن النبات بالحركة ، أما الإنسان فله وزن ، وله حجم ، وأبعاد ثلاثة ، ويشغل حيزاً من الفراغ ، وينمو كالنبات ، ويتحرك كبقية المخلوقات ، لكنه يفكر ، أودع الله في الإنسان قوة إدراكية ، هذه القوة الإدراكية الاستجابة لها طلب العلم ، فالإنسان ما لم يطلب العلم هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، فلذلك الإنسان يتحرك ويأكل ويشرب وينام ، كل هذه الصفات يشترك بها مع بقية المخلوقات ، إلا التفكر والقوة الإدراكية التي أعطاه الله إياها ، هذا التفكر من أجل أن يعرف الله :
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
[ تفسير ابن كثير]
الاستقامة على أمر الله أساسها حرص الإنسان على سلامته و سعادته :
الإنسان سعادته أن يتصل بالله ، الإنسان في الأعمّ الأغلب يحب الجمال والكمال والنوال ، والأشياء الثلاثة متوافرة في هذا الدين العظيم ، فالإنسان طبعاً كواحد من سبعة مليارات ومئتي مليون ما منهم واحد إلا ويحب سلامته ، والسلامة بالاستقامة ، لأن الإنسان أعقد آلة في الكون ، هذا التعقيد تعقيد إعجاز لا عجز ، ولهذه الآلة صانع عظيم ، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة ، وانطلاقاً من حرص الإنسان على سلامته يجب أن يستقيم على أمر الله ، أما من حرصه على سعادته فيجب أن يقدم لله شيئاً ، العمل الصالح يضمن له سعادته :
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
[ سورة فاطر: 10]
هذا العمل الصالح يرفع إلى الله يعود من الله على صاحبه السكينة ، هذه السكينة يسعد بها ولو فقد كل شيء ، بل يشقى بفقدها ولو ملك كل شيء ، فالسعادة التي يعيشها المؤمن لا يمكن أن يتصورها غير المؤمن ، لأن هذه السعادة اتصال بالمطلق ، اتصال بالإله العظيم ، اتصال بالجميل ، بالقوي ، بالغني ، بالرحيم ، بالحليم ، فلذلك مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، إنّ بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّارها هم عمّارها، فطُوبى لِعَبْد تطهّر في بيته ثمّ زارني، وحُقّ على المزور أن يُكْرم الزائر.
ملازمة الأمن للإيمان و الشرك للخوف :
كيف يكرمك الله عز وجل إذا اتصلت به ؟ قال تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه:14]
وقال تعالى:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
[ سورة البقرة: 152]
إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية ، لكن الله إذا ذكرك منحك نعمة لا يتمتع بها إلا المؤمن ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81-82 ]
ما قال : أولئك الأمن لهم ، الأمن لهم ولغيرهم ، أما عندما قدمنا شبه الجملة لهم أي العبارة فيها قصر، فالأمن لهم وحدهم، أي لا يتمتع بنعمة الأمن إلا المؤمن ، أما الآخرون :
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا ﴾
[ سورة آل عمران: 151]
الإيمان يلازمه الأمن والشرك يلازمه الخوف ، فيصبح أقوى قوة في الأرض .
المذيع:
هناك علاقة بالطمأنينة كذلك ؟
الدكتور راتب :
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد : 28 ]
أنت مع من ؟ مع الخالق ؟ مع المسير ؟ مع الغني ؟ مع القوي ؟ مع الرحيم ؟ أنا أقول إذا تعرفت إلى الله ، وأخلصت له ، واتصلت به ، إن لم تقل ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني فهناك مشكلة في الإيمان .
المذيع:
كأنكم ربطتم مسألة السعادة بتحقيق الربوبية لله تعالى فلو فسرت لنا العلاقة بين العبودية والسعادة ؟
العلاقة بين العبودية و السعادة :
الدكتور راتب :
هناك ذلة وسعادة ، الحقيقة اللذة حسية تأتي من طعام طيب ، من منظر جميل ، تأتي من الجمال ، هذه اللذة لها شروط ثلاثة ؛ تحتاج إلى وقت ، وإلى صحة ، وإلى مال ، لحكمة بالغة بالغة الإنسان دائماً تنقصه إحدى هذه ، في البداية لا يوجد مال هناك صحة وقوة ، بمنتصف حياته صار هناك مال و صحة لكن لا يوجد وقت ، بعد أن سلّم المعمل لأولاده صار عنده وقت ومال لكن لا يوجد صحة ، فلذلك اللذة لا تكتمل لإنسان ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
المذيع:
اسمحوا لي أن أعيد لكم ما فهمته من حضرتكم ، قلتم : إن اللذة مؤقتة وليست دائمة وهي مرتبطة بالحس ، وأن السعادة الحقيقية لا تتوفر في أغلب الأحيان ؟
الدكتور راتب :
ينقص الإنسان واحدة أما السعادة فأن تتصل بأصل الجمال والكمال والنوال .
المذيع:
المسلمون ينتمون إلى دين عظيم فيه كهذه الحكم والعبر الكثير إلا أن حال المسلمين لا تسر أحداً ، هل أصابنا الوهن ؟
حاجة الدين إلى الاستقامة :
الدكتور راتب :
حالتهم التي لا تسر أحداً تؤكد عظمة دينهم ، لأنهم لما تركوه أصابهم ما أصابهم ، تؤكد عظمة هذا الدين الذي يحتاج إلى استقامة ، كيف إذا سألنا أحداً : هل تلخص التجارة كلها بكلمة واحدة ؟ مليون نوع ، مليار مستوى في العالم كله ، أنا ألخص التجارة كلها بكلمة واحدة إنها الربح ، فإن لم تربح فلست تاجراً ، هناك مليون مجلد عن الدين وعن تفاصيله ؛ العقائد والفقه والعبادات والمعاملات والأخلاق وأصول الفقه وأحكام الفقه والفقه المقارن ، لكن كل هذا الدين يلخص بكلمة واحدة الاستقامة ، فإن لم تستقم على أمر الله لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، الدين من دون استقامة فلكلور إسلامي ، خلفية إسلامية ، أرضية إسلامية ، توجهات إسلامية ، أقوال إسلامية ، أقواس إسلامية ، بطاقة معايدة إسلامية ، هذه ممتلئة في حياتنا ، أما حينما يقول النبي الكريم :
(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))
[أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]
والمسلمون يزيدون عن مليار وسبعمئة مليون وليست كلمتهم هي العليا ، وليس أمرهم بيدهم ، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل .
المذيع:
هل أصابهم الوهن ؟
الإسلام منهج تفصيلي يشمل كل جوانب الحياة :
الدكتور راتب :
قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
أخي الكريم اللغة دقيقة جداً ، لو سألك إنسان : هل أنت جائع ؟ تقول : لا فقط يكفي، لكن إنساناً محترماً له مكانة كبيرة لو سأله أحدهم هل أنت سارق ؟ لا يقول : لا ، يقول: ما كان لي أن أسرق ، هذا نفي الشأن لا نفي الحدث ، نفي الشأن لا أوافق ، ولا أرضى ، ولا أقبل، ولا أغطي ، ولا أدعو ، عدّ العلماء عشرة أفعال تنفى بكلمة ما كان ، الآن تمهيد :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن نعذب وسنة النبي مطبقة في حياتنا :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
ومنهجك فيهم ، وأمرك ونهيك فيهم :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
[ سورة الأنفال: 33 ]
لي ملاحظة دقيقة ؛ أخوتنا المشاهدون أحياناً يتوهمون الإسلام عبادات شعائرية صوم وصلاة وحج وزكاة مع أن النبي الكريم يقول :
((بني الإسلام على خمس))
[البخاري وابن خزيمة عن عبد الله بن عمر ]
الخمس غير الإسلام هذه قواعد ، الإسلام منهج تفصيلي والله لا أبالغ قد يصل لخمسمئة ألف بند ، من فراش الزوجية وهو من أخصّ خصوصيات الإنسان وينتهي بالعلاقات الدولية ، فما لم تخضع لهذا المنهج في كسب مالك ، في إنفاق مالك ، في اختيار زوجتك ، في معاملة زوجتك ، في تربية أولادك ، في علاقتك بجيرانك ، لمن هو فوقك ، لمن هو تحتك ، لمن هو حولك ، منهج تفصيلي ، بل إن هذا المنهج يبدأ كما قلت قبل قليل من أخصّ خصوصيات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية .
المذيع:
ولكن البعض يقول العكس : هذا الدين إذا دخل على شيء يخص الشأن العام أفسده، أو أفسد المقدس ، بالتعبير الأكثر دقة إدخال الدين في الشأن العام يدنس هذا المقدس .
سقوط المفاهيم الراقية عند الناس تكون بالمتاجرة بالدين :
الدكتور راتب :
الجواب إما أن تؤمن بهذا الدين ، وتبذل من أجله الغالي والرخيص والنفس والنفيس وإما أن تتاجر به ، فإذا تاجرت به كان الذي كان ، الدين لا يتاجر به ، أنت حينما تجعل من أحكام الدين مادة تجارية تتفوق بها على من حولك هذا شيء واقع الآن ، حينما تاجرنا بالدين سقطت هذه المفاهيم الراقية عند الناس .
المذيع:
ما السبيل إلى حلّ هذا المشكل حتى لا ننسى الأصل ؟
تحطيم الأمة يكون بإضعاف الأسرة والمدرسة والمرجعية الدينية :
الدكتور راتب :
الأمة عاشت ثلاثين عاماً أو أربعين عاماً في فساد وانحراف وتقصير ، الأمر لا يصحح بيوم ولا بسنة ، فلا بد من تربية جيل من البدايات ليكون القاعدة الأولى لهذا المجتمع، وهذه القاعدة الأولى تفرز قاعدة أصغر وأصغر وأصغر إلى القمة ، فلا يعقل أن تبني الهرم من الحجر الأعلى يجب ان تبدأ بناءه من القاعدة ، ما لم نعتمد التعليم ، مالم نعتمد أن التعليم هو بدء نهضة الأمة ، ما لم تعتمد المعلم الواعي الذي يؤمن بدينه ووطنه وقيمه ، هذا المعلم هو حجر الأساس بالنهضة ، ومع ذلك دائماً هناك تخطيط خطير جداً استعماري أن تضعف قيمة المعلم بإفقاره ، فحينما يضعف المعلم تنتهي الأمة ، ابنك من يربيه غير المعلم ؟ المعلم فقير يعمل بعد الظهر و قبل الظهر ، فحينما نضعف المعلم ونضعف المرجعية الدينية ونضعف الأسرة ، ثلاث مراحل ، الأسرة والتعليم والمرجعية الدينية ، فإذا أوحينا للأم أنك إن كنت ربة منزل فلا شأن لك أخرجناها من البيت تفلت أولادها ، وإذا طعنا بالمعلم وهو حجر الأساس بالنهضة وأضعفناه مالياً واجتماعياً انتهى التعليم ، ثم أضعفنا المرجعيات الدينية فهاجمناها ، لذلك إذا أردت أن تحطم الأمة أضعف الأسرة والمدرسة والمرجعية الدينية .
المذيع:
للأسف لم يبق الكثير ، يقول البعض : إن حقوق الإنسان مفقودة في الإسلام ، يقول آخرون : لما مورس تطبيق تعاليم الإسلام في بعض الأماكن أو يزعم أنها تطبق وجدنا سفكاً للدماء ، ووجدنا اعتداء على حقوق الإنسان ، هل توجد بعض الآيات أو الأحاديث التي تتحدث عن حقوق الإنسان ؟
إعطاء الدين الإسلامي الإنسان حقوقه و حفظها له :
الدكتور راتب :
والله أنا لا أنحاز إلى الدين لأنني أدعو إلى الله ، لكن الحقيقة الموضوعية أنه ما من دين أعطى حقوق الإنسان كالدين الإسلامي ، هذا الطفل يجب أن ترعاه قبل أن يولد بحسن اختيار امه ، الطفل له حق عليك ، من قال في الأرض : إن حق الطفل على الأب يبدأ قبل الزواج ؟ فالحقيقة هذا منهج إلهي ، أنت حينما تقول : منهج خالق الأكوان منهج العلم المطلق، والخير المطلق ، والمكانة المطلقة ، والقيم المطلقة ، والحق المطلق ، أنت مع المطلقات في الدين ، المشكلة المؤلمة أن القلة القليلة ممن يتاجر بالدين يشوهون سمعة الدين في كل الأنحاء، كنت مرة في أوربا أقسم لي أحدهم قال : والله تتمتع الجاليات الإسلامية بأعلى مستوى من الفهم و الوعي ، لكن قلة قليلة من هذه الجاليات تشوه سمعة كل الجاليات ، المشكلة كبيرة جداً فلذلك نحن في محنة كبيرة ، والمحنة وردت في بعض الشواهد الإسلامية ، نحن بآخر الزمان ، يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، إن تكلم قتلوه ، وإن سكت استباحوه، موتٌ كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ؟ ولا المقتول فيمَ قُتل ؟ هناك شواهد كثيرة جداً إذا أسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة .
(( إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فالزم بيتك ، وأمسك لسانك ، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ...))
[ أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ]
موضوع طويل فنحن في آخر الزمان نعاني ما نعاني .
المذيع:
ما السبيل إلى النجاة ؟
العلم سبيل نجاة الأمة :
الدكتور راتب :
أنا لا أرى سبيلاً للنجاة إلا العلم ، الإنسان كائن فحينما يقتنع أن هذا العمل لصالحه يفعله ، أي الدين توقيفي لا يضاف عليه ولا يحذف منه ، إنك إن أضفت عليه اتهمته بالنقص ، وإن حذفت منه اتهمته بالزيادة ، ولكن التجديد في الخطاب الديني لماذا ؟ الخطاب الديني هو الذي يتفاعل معه الناس ، فحينما يكون هذا الداعية مطبقاً لما يقول ترتقي الدعوة ، لذلك قالوا : القدوة قبل الدعوة . والإحسان قبل البيان ، فأنا لا أقنع بأذني أقنع بعيني ، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، فالقدوة قبل الدعوة ، أنا أريد كما يقال : الكون قرآن صامت ، و القرآن كون ناطق ، و النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي ، ما لم يرّ الناس إسلاماً يمشي إن حدثك فهو صادق ، إن عاملك فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، ما لم تر إسلاماً يمشي أمامك لن تقنع بهذا الدين كفكر ، كمحاضرات ، كخطب ، كبيانات ، هذا الآن لا يقدم ولا يؤخر ، نريد إسلاماً يمشي أمامنا ، نريد أن نراه بعيوننا لا بآذاننا .
المذيع:
كما قيل : إن النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي في الأسواق وبين الناس.
الدكتور راتب :
فالآن الإسلام يمشي في الأسواق.
المذيع:
تميزت محاضراتكم بأنها إضافة أنها تتحدث عن الرقائق والروحانيات تحدثت أيضاً عن العلم والإعجاز العلمي إلا أن البعض يقول : إن السمت البالغ على محاضراتكم هو هذان الأمران ، فهل هو خيار لفضيلتكم ؟
من أحسن توجيه الناس إلى الله فارتقاء الشأن العام آلية حتمية :
الدكتور راتب :
أنا قناعتي الشيء العام ينبع من الشيء الخاص أولاً ، الشيء العام أساسه شيء خاص ، فإذا أحسنت توجيه الناس إلى الله عز وجل فارتقاء الشأن العام آلية حتمية ، أنا إذا اهتممت بالشأن العام و لم يكن هناك أرضية لهذا الشأن العام ، لا يوجد روادع ، أنت تقدر أن تحاسب إنسان إذا أخطأ أمامك ، فإذا غاب عنك لا يوجد قوة تضبطه ، هذا الذي يعمل في الفرن الساعة الثانية ليلاً إذا دخل إلى الخلاء ولم يغسل يديه وتابع العجين من يضبطه ؟ لا يمكن أن تضبط الأمور إلا بالإيمان ، هناك ضبط إلكتروني بأي سوق في أوربا أو أمريكا ، تحمل حاجة لم تدفع ثمنها هناك لصاقة على هذه الحاجة تعطي أمر إنذار ، تغلق الأبواب ، وتُصدر أصوات مخيفة جداً ، فالناس مستقيمون استقامة الكترونية ، أما عندما قطعت الكهرباء في بعض دول أمريكا تمت مئتا ألف سرقة بقيمة ثلاثين مليار دولار لساعات ، فالانضباط الكتروني ، أما أنا فأريد انضباطاً ذاتياً ، هذا الانضباط :
(( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))
[ كنز العمال عن عمر]
سيدنا عمر يمشي في الطريق وجد راعياً ، قال له : بعني هذه الشاة وخذ ثمنها ؟ قال له : ليست لي ، قال : قل لصاحبها ماتت وخذ ثمنها ؟ قال : ليست لي، قال له : خذ ثمنها؟ قال له : والله إنني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ولكن أين الله ؟
أنا هكذا في اللحظة التي يبدأ الإنسان العربي يقول : أين الله ارتقينا ، ما دام قوياً وعنده إمكانيات أن يأخذ ما ليس له ، وعنده إمكانيات أن يكذب ويدجل ، نحن في الحضيض إلى أن نقول : أين الله ؟ إلى أن نحدث رقابة إلهية ذاتية علينا ، هذه تحتاج إلى جهد كبير .
المذيع:
جيء بأحد الصالحين وقيل له : قل بأمر ما يختلف مع ما يعتقد أنه صواب ، وهدد بالقتل ، الإمام أحمد في قضية خلق القرآن ولست متأكداً قيل له : إن الناس بحاجة إلى علمك فقل للسلطان عكس ما تعتقد أنه صحيح فقال قولاً مشهوراً : إن كان الناس بحاجة لعلمي فهم في حاجة أمس لمن يعلمهم المبدأ ، فيقول البعض : ربما ننتظر من علمائنا الصدع بقول الحق في مسائل تهم الشأن العام فكيف نقارن بين هذين الفهمين؟
العلماء أنواع ثلاثة :
الدكتور راتب :
والله العلماء بعضهم صدعوا ودفعوا ثمناً غالياً ، وبعضهم صمتوا ، وبعضهم نافقوا ، فالذين نافقوا سقطوا من عين الناس ، انتهوا ، والذي صدعوا ارتقوا كثيراً عند الله ، والباقون بين بين ، الناس يعذرونهم، الناس يعذرون الساكت ولا يعذرون المادح .
المذيع:
لا يعذرونه فقط بل يحبونه لأن فرق كبير بين المادح والساكت ، قال الدكتور عبد الله المصلح وكان ضيفاً هنا في نفس الكرسي الذي تجلسون حضرتكم عليه الآن سألناه عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فقال : هو رأس الحربة في الدعوة إلى الله ، فهل تشاطرونه الرأي؟
الإعجاز العلمي سبيل لإقناع الغرب بالإسلام :
الدكتور راتب :
أقول لك كلمة دقيقة : حينما صعد رواد الفضاء إلى القمر وتجاوزا طبقة الهواء ، وفي طبقة الهواء حادث فيزيائي اسمه انتثار الضوء ، ذرات الهواء تعكس بعض الأشعة على ذرات أخرى لم تصبها أشعة الشمس، في الأرض شيء اسمه ضياء ، وشيء اسمه أشعة ، فلما صعد رواد الفضاء كان هناك انتثار للضوء ، الأرض منيرة فلما تجاوزوا طبقة الهواء صاح رائد الفضاء بأعلى صوته : لقد أصبحنا عمياناً ، إذا تجاوزنا الغلاف الجوي وانعدم انتثار الضوء ، هذا حادثة بأبولو ثمانية ، أحد علماء مصر الكبار في الفلك كان حاضراً بنفسه في فلوريدا ، فإذا قرأت القرآن :
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾
[ سورة الحجر: 14-15]
ما هذا التطابق بين آية وردت قبل ألف وأربعمئة سنة وبين حقيقة علمية كشفها رواد الفضاء وهم في طريقهم للقمر ؟ شيء مذهل ، حينما يقول الله عز وجل :
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾
[ سورة الروم: 2-4]
أدنى الأرض غور فلسطين ، بعد اكتشاف أشعة الليزر تبين أن غور فلسطين أخفض نقطة في الأرض قطعاً فجاءت الآية تؤكد الحقيقة العلمية التي اكتشفت بأشعة الليزر، حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
[ سورة النجم : 45]
علم الأجنة بعد عمر مديد اكتشف أن الذي يحدد جنس الجنين - ذكر أو أنثى -ليست البويضة ولا علاقة لها بذلك ، لكنه الحوين ، فتأتي الآية :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾
[ سورة النجم : 45-46]
أنا بهذا الموضوع هناك ألف وثلاثمئة آية في القرآن الكريم تبين عظمة هذا القرآن ، وأن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن ، أنا أرى الآن أن الغرب يؤمن بالعلم ، فإذا كشف حقيقة مذهلة في أيام قريبة ثم اكتشف أن القرآن يشير إليها ، الحقيقة القطعية التي ينبغي أن نؤمن بها أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن، فأنا لا أرى مادة الآن تقنع الغرب بالإسلام كالإعجاز العلمي .
المذيع:
هذا الدين الذي يعطي أهمية للعقل نجده في مواضع كثيرة يوجب الاعتماد على النقل فما الرابط بين العقل والنقل ؟
ارتباط العقل بالواقع و الوحي بالخالق :
الدكتور راتب :
أولاً : العقل مرتبط بالواقع ، السبب لو أحيينا إنساناً من قبره مات قبل خمسين عاماً، أعطيناه قرصاً مدمجاً ، هناك قرص مدمج فيه خمسة عشر ألف عنوان كتاب ، عنوان غير كتاب ، قد يكون الكتاب أربعين جزءاً ، ويمكن أن تبحث في هذه الكتب بأكملها في دقيقتين في أي موضوع ، لو أطلعنا الإنسان الذي عاش قبل خمسين عاماً على هذا الشيء لا يصدقه ، فالعقل مرتبط بالواقع ، أما الوحي فمرتبط بالخالق ، فهما بالأساس لا يعترضان ، لأن الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط ، خط النقل الصحيح ، كل كلمة معها صفة النقل الصحيح لأن هناك نقلاً غير صحيح ، وخط العقل الصريح ، هناك عقل تبريري غير صريح ، وخط الفطرة السليمة ، هناك فطرة منهزمة مكتومة ، وخط الواقع الموضوعي ، هناك واقع مزور ، فإذا كان الحق نقلاً صحيحاً وفطرة سليمة وعقلاً صريحاً وواقعاً موضوعياً كان هو الحق ، فعلى الداعي في هذه الدائرة أن يعطيك النص الصحيح ، ويعطيك التفسير الصحيح العقلي المنطقي الواقعي، ويعطيك موقف الفطرة منه ويعطيك أن الواقع يؤيد هذا الشيء ، فلهذا قالوا : العلم علاقة قطعية بين متغيرين ، تطابق الواقع ، عليها دليل ، لو ألغيت الدليل لكان تقليداً ، والله عز وجل لم يقبل الاعتقاد به تقليداً قال تعالى :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾
[ سورة محمد: 19 ]
لو قلدت العقيدة الصحيحة لا تقبل منك ، قال : فاعلم ، الحقيقة لو ألغيت الواقع لكان جهلاً ، لو ألغيت الدليل لكان تقليداً ، لو ألغيت العلاقة الثابتة القطعية لكان وهماً أو شكاً أو ظناً، خلاف العلم الوهم والشك والظن ، خلاف الدليل التقليد ، خلاف الواقع الجهل ، فالعلم علاقة قطعية بين متغيرين، تطابق الواقع عليها دليل ، فإذا كان ديننا دين علم ودين عقل ودين واقع هذه من نعمة الله الكبرى .
المذيع:
نتمنى أن ترجع إلينا مرات ومرات ؛ السؤال الأخير عن عزوف المسلمين في المشاركة وإبداء الرأي فيما يتعلق بالشأن العام ، ويقول : أنا لا يهمني ماذا سيفعل الحاكم ؟ لن يصلح حال الأمة ؟ سأبقى ملتزماً في بيتي .
عزوف المسلمين عن المشاركة وإبداء الرأي فيما يتعلق بالشأن العام :
الدكتور راتب :
هذا مرض نشأ من خمسة عقود سابقة ، حينما كان هناك القهر والاستبداد ، وإلغاء الآخر وإلغاء الاعتراض ، أي إنسان يعترض ينتهي ، تراكمت هذه الممارسات القمعية في العالم الإسلامي في العقل الباطن للإنسان ، فهذا العقل الباطن للإنسان حلّ مشكلته بالبعد عن السياسة كلياً ، بالبعد عن الشأن العام كلياً ، لأن القضية خطيرة جداً ، فلما صار هناك ربيع عربي وأتمنى ألا يكون خريفاً عربياً ، فلما صار ربيع عربي بقي الناس على حالتهم السابقة ، متقوقعين بعيدين عن المشاركة في الشأن العام ، أنا أقول : الذي لا يشارك في الشأن العام يدفع الثمن باهظاً ، وفي بعض البلاد الإسلامية دفع شعبها ثمناً باهظاً جداً جداً ، والسبب الواقعي والحقيقي أن هذا الشعب عزف عن الشأن العام ، وانتبه إلى شأنه الخاص ، فإذا عزف الإنسان عن الشأن العام واهتم بشأنه الخاص قد ينجح لفترة لكن بعد ذلك هناك درس بليغ جداً وهذا الدرس أتمنى ألا تقع به أمة أخرى ، لما نعزف عن الشأن العام ونهتم بالشأن الخاص هناك عقاب كبير من الله .
المذيع:
نسأل الله السلامة ، وصلنا لنهاية الحلقة فلكم فضيلة الشيخ كلمة الختام.
انتصار الأمة يكون بتطبيق منهج الله فقط :
الدكتور راتب :
والله إذا أردت نجاح الفرد ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾
[ سورة التحريم : 8 ]
إذا أردت نجاح الأمة فبتطبيق منهج الله ، الفرد له وسائل للنجاح ، أن يتعرف إلى الله ، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، فالعبد يرجع إلى الله ، الحقيقة هناك حركة أمامه تحركه ، هذه الحركة يجب أن تكون وفق منهج الله ، ما من شهوة أودعها الله بالإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، والدليل :
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
المعنى المخالف : الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه ، لا يوجد حرمان في الإسلام هناك ترشيد ، فنحن كفرد إذا اصطلحت مع الله ، وطبقت منهجه ، كل الشهوات التي أودعها الله فيك لها قنوات نظيفة عفيفة ترقى بها ، وأما الأمة حينما تطبق منهج الله فستنتصر ، إن لم تطبقه لا تنتصر هذا ملخص الملخص .
خاتمة و توديع
المذيع:
نسأل الله النصر لأمة الإسلام في جميع بقاع المسلمين ، أشكركم فضيلة الشيخ سعادة الدكتور محمد راتب النابلسي ، كان معنا في هذا اللقاء الخاص ، نسأل الله أن يجعل كل ما تفضل به الشيخ في ميزان حسناته ، مشاهدينا الكرام نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، دمتم في حفظ الله .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
والحمد لله رب العالمين
مواضيع مماثلة
» تكوين المفكر - خطوات عملية
» طريق النجاح في الحياة
» موضوعات متنوعة - مقالات الشباب - المقالة 03 : قيام الليل خطوة في طريق الإيمان
» طريق النجاح في الحياة
» موضوعات متنوعة - مقالات الشباب - المقالة 03 : قيام الليل خطوة في طريق الإيمان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى